-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

التنمّر الفكري... لماذا؟

 

هيئة التحرير

التنمّر عادة ما يكون بين الأطفال، لكنه التنمّر يبقى تنمّراً، لا يعرف الصغار ولا الكبار، فهو سلوك عدواني (متكرّر)، و(متعمّد) من قبل فرد أو جماعة تجاه شخص آخر أو جماعة أخرى؛ بهدف الإضرار، وينقسم التنمّر إلى أنواع عدّة، منها التنمر البدني عن طريق الدفع، والعرقلة، والصفع، والخنق، واللكم، والركل، والضرب، والطعن، وشدّ الشعر، والخدش، والعضّ، وهناك التنمر اللفظي الذي يحدث بالتنابز بالألقاب، أو الإهانات، أو إبداء التعليقات الجنسية واستخدام الألفاظ المكروهة لدى الضحية، وتوجيهها له باستمرار، ويوجد أيضاً التنمّر النفسي الذي يعمل على نبذ الشخص المتنمّر، أو مجموعة الأشخاص المتنمّرين، للفرد المعتدى عليه، واستبعاده من النشاطات والفعاليات والمناسبات الاجتماعية، وتحريض الآخرين على الابتعاد عنه، أو مقاطعته، وهناك التنمّر الفكري بوضع أمور مهينة للشخص على الواقع أو المواقع الاجتماعية، مثل التعليقات والمنشورات والصور والفيديوهات، وتشويه سمعته ورفض مصادقته، وهناك أيضاً التنمّر العاطفي والجنسي والاجتماعي والعرقي...

 

كلّ حدث جسيم ومعقّد يُحدث شروخاً في نظرة البشرية لوجودها، فأكثر الفلسفات – الأفكار عدمية وُلدت من رحم الحربين العالمية، ومن ظلامها الدامس خُلقت أشدّ الأعمال عبثية في الأدب والمسرح والسينما والفنّ والحياة الاجتماعية؛ لأن السخرية – الكوميديا السوداء كانت دائماً أكثر طرق التعبير تطرّفاً – تطرّقاً عن الوجع العام والخاصّ، ولأنه لم يعد للإنسان أيّ طريق آخر يكمل به درب الحياة، بعد أن باحَت ببعض بشاعتها، إلا هذا الطريق المُصاب بشرخٍ عميق في جوهره.

 

لن نكون مخطئين ولن نخسر شيئاً إن شبّهنا التنمّر الفكري بالطاعون والكوليرا وكورونا وغيرها من عشرات الأوبئة الفتّاكة الأخرى، التي لم تحصد أرواح البشر فحسب – كما تحصد المناجل الحبوب في موسم الحصاد – ولكنها ظلّت إلحاحاً أبدياً ودائماً يشير إلى ضآلة الإنسان عن كينونته الروحية، ومحدوديته، وتذكيراً في الوقت نفسه ببداية رحلتنا البشرية، في مواجه العنف المعنوي، الذي يصادر الحرّيات، ويسلب الإرادة ويخرّب النفس، ويعمي العقول؛ حيث يصبح الفرد البشري مجرّد آلة أو أداة يتم التحكّم بها من أجل خدمة نفسه أو جماعة بعينها، تستخدم العنف – التنمّر الفكري سبيلاً؛ لتحقيق أهدافه – أهدافها المشبوهة والمعتلّة.

 

لا زال الرأي والرأي الآخر – النقد يواجه تحدّيات جمّة، لخلق بيئة حوارية متبادلة وسليمة، وهذه التحدّيات مستفحلة بشكل رهيب على مواقع التواصل الاجتماعي المتنوّعة، التي أغلب مستخدميها يختبئون خلف صفحاتها المزركشة، فعلى موقع الفيس بوك – على سبيل الفرضية – نرى الإنسان بأبهى التجليات الإنسانية، أما في الواقع هو شخص لا يشبه الإنسان، والعكس الصحيح أيضاً، إذ كثيراً ما نتعثّر في الواقع بأشخاص سليمين، وفي تلك المواقع مريضين، يشدّدون على العنف الفكري، الذي لا يؤمن بحرّية الإنسان وفكره، أو ما يمكن أن نطلق عليه التعصّب للرأي، ويتمثّل عمله ونظرته أيضاً في إلغاء الآخرين وتهميشهم، والحجر على آراء المخالفين، وإقصائهم، وعدم قبول أيّ فكر أو رأي معارض لفكره، حيث يتبنّى إيديولوجية معيّنة، تقوم على الإقصاء والتشكيك، وشيطنة المجتمع تارة والمسؤول تارة أخرى، وتجييش الأتباع والتهديد بزعزعة الأمان الكتابي وتصل إلى الإضرار المعنوي والنفسي؛ وصولاً لاحتماليات التصفية النفسية وحتى أحياناً الجسدية والإقصاء من الحياة، وغيرها من أساليب التنمّر الأخرى، ولعل الشباب هم أكثر الفئات العمرية التي تقع تحت براثنها.

 

وبصورة أكثر إيضاحاً يمكن القول بأن التنمّر الفكري يترتّب عليه أخطار وآثار سلبية تنعكس على الجيل الراهن والمجتمع، حيث يعمل على تهديد الاستقرار النفسي والاجتماعي والتعليمي لأيّ مجتمع، وكم سهله طرق التهديد تلك! وكيف لا يؤدّي إلى ذلك وهو يعدّ أحد أشكال الإرهاب الفكري، فكتابة تعليق قصير على منشور أيّ شخص يمكن أن يغرقه في التهلكة النفسية، وبالتالي زرع نظرة سوداوية في تفكيره، فيبدأ بإطلاق أحكامه على الحياة والناس، وهو لم يتجاوز السنّ القانوني.

 

ولمجابهة هذه الظاهرة لا بدّ من مجابهتنا لأنفسنا أولاً: لماذا نمارس التنمّر؟ ما الهدف منه؟ ما الغاية؟ ما النتيجة؟ ومَن يدفعنا إلى ذلك؟ هل بممارسته نعيش الابتهاج والرفاهية؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي أكثر تعقيداً وارتباكاً، الأمر الذي يفرض حاجة التفكير إلى تضافر جهد ذاتي وجماعي، أيّ تقع على عاتق جميع مؤسّسات الدولة والمنظمات المحلية والعالمية، وهنا سنتطرّق إلى عدّة أساليب لمجابهتها:

إن الدور الأساسي في مجابهة التنمّر الفكري يقع على عاتق النخب المثقّفة في المقام الأول؛ ويمكن أن يتم ذلك من خلال تفعيل مجموعة من الأنشطة الحوارية، والدراسات والبحوث، والكتابات، والمؤتمرات، التي تهدف إلى تصحيح الأفكار والمعتقدات، وتنقية العقول المنحرفة من الشوائب التي علّقت بها ، ومنع العقول الأخرى من الانحدار في بؤرة الانحراف والشذوذ والتطرّف والتعصّب الفكري، وضرورة تقبّل الآخر دون أيّ غاية أو شخصنة.

يقع أيضاً على عاتق مؤسّسات الدولة المتنوّعة وخاصّة التعليمية والإلكترونية القيام بدور فعّال في مواجهة ظاهرة التنمّر بكافة أشكاله – ولا سيما الفكري – ولن يتأتّى ذلك إلا من خلال قيامها بتحصين الشباب من الوقوع في براثن الانحراف الفكري أو المنحرفين الفكريين.

كما يجب العمل على تفعيل إستراتيجية الأمن الفكري، لما له من أهمية كبيرة في التحصين الأخلاقي، والعقائدي، والفكري، فالأمن الفكري يعمل على تهذيب العقول وحفظ النفس، كما أنه يمثّل ضمانة هامة للمجتمع.

ويبقى سؤال كلمة التحرير لهذا العدد مطروحاً وبقوة: التنمّر الفكري... لماذا؟

تعديل المشاركة Reactions:
التنمّر الفكري... لماذا؟

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة