-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

ساعة واحدة من الألم والوحشة


مجد حمشو

ألم الواقع من حولك، ألمك الَّذي يدوي في الأفق، وساوسك الرَّيبيَّة الَّتي لا تفارق كياناتك الهشَّة، التَّساؤلات الدَّائمة الَّتي لا تفارقك، مخاوفك الضَّحلة، مخاضات طريقك، خضخضات مسارك المترنِّحة الَّتي تجعلك تتلوَّى كعادتك، الأوهام، الشَّكّ؛ سلاحك الدِّيكارتيُّ الَّذي تمدُّه إلى الأفق برمَّته مُصرَّاً على ألَّا تهادن.

لماذا الآخر؟ ولماذا نجتَّر مقولة أنَّنا اجتماعيّون؟ 

مجدَّداً ترفض أن تتراجع عن استحضار نيتشه في كلِّ لحظة، وكأنَّه قد عرف سرَّاً لا مناص منه “الآخر هو الجحيم”، ثمَّ تمدُّ الشَّكَّ الهوسيَّ لكلِّ شيء دون مواربة.

أذكر حينها عندما كنت في المدرسة الثَّانويَّة، وأنا أجلس في المقعد الأخير من جهة اليمين بجانب نافذة غرفة الصَّفِّ، عندها سألنا مُدرِّس الفلسفة عمَّا إذا كنَّا نستطيع العيش دون الآخر، ليجتَّر لنا ما قيل منذ زمن أنَّنا اجتماعيّون بكلِّ ما أوتينا من بلاهة العالم، إلَّا أنَّني أصرَّيتُ على مخالفته والإقرار بأنَّه بإمكاني العيش دون الآخر في محاولةٍ لإفراغ رغبتي العائمة في التَّعبير عن وحدتي الَّتي كانت تنخرُّ جسدي بهدوء حتَّى كان نُحلي الشَّديد خيرُ دليلٍ على هذه الوحدة. 

لا تُقاس التَّجارب الإنسانيَّة بالوقت القصير (شكراً ماوتسي تونغ)! ما زلتُ لا أُجيد تقييم تجربتي حتَّى الآن، هل صنعتْ مني شكلاً هلاميَّاً يستحِق أن يُذكر؛ ولو قليلاً أم حطَّمتني كرمادٍ متناثر بكلِّ مكان؟

لماذا لا تكفّ الوساوس عني؟ لماذا نحتاج كلَّ هذا الطَّريق الوعر وهذا الألم المُضني لكي نتحوَّل؟ 

أعود كلَّ يومٍ إلى زنزانتي، غرفتي، سرُّ الأسرار؛ حاملاً معي ألم الوجود بأسره لأتحذلق به وأُبعثره بين ثنايا الجدران، ورائحة البخور والمسك تحيط بأنفي الَّذي كان مدعاةً للسُّخريَّة من أقراني، حين كنَّا بلهاء ويافعين، إلى أن أصبحَ استعارةً عن القوَّة والمنعة عند والدي الخامد في اللَّامكان واللَّازمان… من الصَّعب أن نكتب عن عيوبنا عادةً!

إنَّنا نستحق الحياة، وجديرون بأنَّ نترع سمومها وآلامها وأحقادها وأشباحها، وجديرون بأن نُجيب عن ترهاتها بأجوبةٍ غريبةِ الشَّكل والمعنى.. 

نتذوَّق طعم مرارة العيش دونَ وجودِ من أحببناهم، ونُصِرُّ على التَّحدِّي والاستمرار رغم وعورة الطَّريق.

تجلس مجدَّداً في مكانٍ عائمٍ في اللَّاوجود دون أن تكترث لكلِّ من يسير في شوارع المدينة المُلوَّنة والمُشعَّة بالأضواء البرتقاليَّة، والَّتي تحمل في ثناياها رعباً وهلعاً لا مجال لتفاديه. 

تُعِدُّ لك الحياة وصفاتها السَّحريَّة من كلِّ شيء، وتمشي في شوارعها ممتلكاً ذاكرةَ عجوزٍ مُلتهبةٍ لعلَّ مُجمَلُ ما تحمله هو بقايا صورٍ وأغنيات.

تسير في شوارعَ خاويةٍ من كلِّ شيء؛ من الحافلات، وصوت مفاتيح منزلك، وهاتفك المحمول، وباب غرفتك، وصوت أنين المروحةِ الصَّيفيَّة في لحظات الظَّهيرة الهادئة والفارغة من الألم والصَّوت والكلام، ودفتر الملاحظات الفارغ الَّذي لم تكتب فيه أيَّ شيء، ووجهك الهلاميِّ الَّذي لا يحمل أيَّ شكلٍ متعيِّن. 


لكنك في لحظةٍ وعيٍ ما تسمع صوت فيروز الَّتي تقول: “يا عُمِرْ.. يا عُمِرْ، يا رفيق السَّهر يا عُمِرْ، نبكي على المفرق، وتتوجَّع، وتروح آخر دنيِّ وترجع.. تكتب وتمحي حدود يا عُمِرْ”. إلى أنَّها لم تُطرِبك بقدر ما غرست سكاكين الألم في داخل جلدك حتَّى قطَّعت أوصالك بكلِّ نعومةٍ… فكانت استكمالاً لكلِّ شيء مضى، ولكلِّ حالاتك اللَّامفهومة حتَّى الآن!

نحن نحتاج لأن نختبر ألمنا دائماً، ولأن نتجرَّع السُّمَّ الوجوديَّ الَّذي نعيشه في محاولةٍ لتقدير قيمة الابتسامة بعد مرارة كلِّ شيء، ومجبرون على أن نتجشَّم عناء السَّير في طرقٍ مجهولة الاسم والمعالم ومجهولة النِّهايات وحدنا؛ دون أيِّ أحد.

تعديل المشاركة Reactions:
ساعة واحدة من الألم والوحشة

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة