إدريس سالم
«نقف على طابور الانتظار، ولا نسمع إلا صرخة تتلو الصرخة، كلّما تمّ إلقاء أحد منّا في الهُوّة العملاقة التي تنتهي باللا مكان».
أحمد خميس – قيامة اليتامى
يحتاج الروائيّ السوريّ أحمد خميس - المغرور بروايته المغرورة فكراً وروحاً - إلى قارئ ذاق مرارة اللجوء والاغترابيّة الروحيّة والنفسيّة، فيرى فيه رصاصته الأدبيّة التي ستعرّي كلّ جوانب تجربته، ويفضح مشاعره البائسة تجاه الحبّ والوطن والإجرام. يسمع بين كلماته صوت قهره الذي لم يخرج من جدران صدره، ليسمع هذا الصوت الآن بوضوح عالٍ، صوت شهامته وكرامته ومسخ دمه ولحمه على يد قَتَلَة مأجورين من أنظمة مأجورة، هذا الصوت الرخيم الرحيم الجبّار حوّله أحمد إلى صوت قابل للقراءة، لقراء القهر والعجز معاً.
الصداقة. أبديّة الإخلاص والوفاء. الشهامة. التضحية. العطف. العشق. حنين الذاكرة للمكان. الفنّ. الموسيقى. في الطرف المقابل المضادّ يطرح أحمد قضايا جوهريّة متينة ومعقّدة قوّة وحيويّة: الغربة المغتربة الغريبة. هلاك الروح وتشرّد الجسد. أدب الحرب والجريمة. العُهر. القَهر. الإرهاب الممنهج والمحصّن. انتحاب البصر والبصيرة. جوع القلب وعطشه. مهابل تتغنّى بالعدوى...، وبينهما: الشام والرقّة وأريحا وبغداد وباريس. نهر الفرات ونهر السين. دار الأوبرا. متحف أورسيه. اللوفر. برج إيفل. مطار شارل ديغول وبغداد. شارع الشانزلزيه.
أن تكتب عن «قيامة اليتامى» يعني أن تدمن على كوكائين وهيروئين أسئلة الفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة، المستفحلة والمطروحة على جسد الوطن والاغتراب. تطرحها على نفسك. سؤال يشتقّ من سؤال، ولا نهاية سعيدة في الأجواء والأخيلة. أن تقرأ هذه القيامة يعني أن تعيش أسئلة الدم واللحم والهمّ وأجوبتها بزمكانيّة عقيمة وعميقة لا ترحم، أو ألأصحّ لا تعرف الرحمة ولا تتعرّف عليها، خاصّة وأن سلاحها كبير: الذاكرة، ولا شيء فتّاك مثلها.
يقول أحمد خميس: «في باريس تختلط عليك الوجوه، حتى لتحسب أنك تسير في حديقة للبشر، يمكنك الاستمتاع بجميع الأعراق والألوان والثقافات، وكلّ منهم يرتدي زيّه ويتّشح بأسلوبه وفلسفته، ويجاهر بها أحياناً».
ويقول أيضاً: «العجز أحياناً يدفعك لابتكار وسائل جديدة للتعايش والتكيّف مع ذاتك قبل الآخرين».
فكّ رموز الشخصيّات وقصّة الرواية:
تنطلق أحداث رواية قيامة اليتامى، الصادرة عام 2020م عن دار «فضاءات» للنشر والتوزيع – عمّان/ الأردن، من البيئة الفرنسيّة، حيث يبدأها الرسّام السوريّ «يعرب عبد الغني»، وصديقه «بشارة عيسى» عازف الكمان الفلسطينيّ، ومغنّية الأوبرا العراقيّة «سيلينا الجابري» بخوض زمام الأحداث والقضايا الشائكة، التي تدور رحاها القاسية بين فرنسا وسوريا والعراق وفلسطين.
تتناول الرواية الواقعة في (353) صفحة قضايا فرديّة واجتماعيّة وأمنيّة ونفسيّة، ترتبط تفاصيلها بقصص الفنّ والحبّ والتضحية والقتل وغسل الأدمغة وتحويل البسطاء إلى قَتَلَة غير مأجورين بيد الكبار، لتنتقل الشخصيّات من خلال ستّين فصلاً إلى سوريا عبر تقنيات الرواية، فينقلنا بها كاتبها في كلّ فصل من فصوله وعبر أبطاله الصادقين والكاذبين والقَتَلَة المجرمين إلى مشاهد وقضايا اجتماعيّة ووطنيّة وفنّيّة وإرهابيّة مغايرة لما سبقها، حيث انتقلت الفصول وعلى لسان الراوي الكاتب مرّة والراوي البطل مرّات ومرّات، فكان لكلّ فصل بطله، حيث وُزّعت الأدوار بين كلّ من: يعرب، بشارة، سيلينا، برناديت، داوود، غالب وصباح ونجوى...، ليتدخّل الروائيّ وبفلسفته ونظرته للقضايا المطروحة، فيتحدّث مضيئاً أفكاراً ساخنة وباردة عن تلك الشخصيّة وعوالمها.
يعرب:
«اسمي يعرب قادم من الشرق على بعد كثير من الحروب والأموات والأحزان، على بعد كثير من الحبّ والأشواق والمآسي من هنا». (الصفحة 15).
يعرب طه عبد الغني: رسّام سوريّ – مواليد الرقّة، 1978م. تخرّج من كلّية الهندسة الزراعيّة من جامعة دمشق. ناشط في المجال المدنيّ. شارك في المظاهرات السلميّة المناوئة للنظام الأسديّ البعثيّ. أسمر ومزاجيّ كالبحر. يبحث في فرنسا عن أوراق ثبوتيّة تعيد لروحه اعتباره المهزوم. أقامت له برناديت معرضاً هناك في «فرانس آرت فاكتوري – French Arts Factory». كان بشارة جزء من ذاكرته القديمة، التي تعود جذورها إلى ما قبل الثورة.
بشارة:
«أنا لست بشارة، أنا ما أراده لي شخصان ينتميان لمكان ما، ويعتنقان ديانة ما، ويتبنّيان أفكاراً وإيديولوجيّات ووجهات نظر ما». (الصفحة 32).
بشارة ناجي عيسى: عازف موسيقيّ فلسطينيّ، من مدينة أريحا. أعزب. كلّ ما يجيده هو العزف على آلة الكمان، ووضع الألبسة في الغسّالة وإخراجها بعد ذلك. له فرقة موسيقيّة تتألّف من 50 عازفاً ومغنّياً على مختلف الآلات ومن مختلف الجنسيّات. قدّم على المسرح في «مونمارت – Montmartre» بباريس معزوفة «الطيف» مع صديقته المغنّية العراقيّة سيلينا الجابري؛ تبرّعاً لمخيّم «الركبان» للاجئين السوريّين في الأردن. أصيب بسرطان العظام وتوفي به.
سيلينا:
«حينما لا نكذب نصبح أكثر هيبة». (الصفحة 213).
سيلينا الجابري: مغنّية عراقيّة أوبراليّة. عشيقة بشارة الفلسطينيّ. أرملة سمراء جميلة. عملت بعد فشل علاقتها ببشارة وعودتها إلى بغداد في دار الرحمة للمسنّين، وموّلته من ترِكتها من زوجها. تبرّعت بكليتها لوالدتها صفية الكرخي المسنّة في ذاك الدار؛ اعتذاراً منها لجحودها معها.
برناديت:
«قد يكون الشوق قراراً في بعض الأحيان أكثر من أن يكون مجرّد مشاعر تسبّبها دورة الأيام». (الصفحة 306).
برناديت بونيه: صحفيّة فرنسيّة شقراء. تعمل في وكالة فرانس 24 كمترجمة من اللغتين العربيّة والإنكليزيّة إلى الفرنسيّة. اقتحمت حياة يعرب قادمة من أبواب الحبّ والعشق السامي، وغادرتها بغموض، فكان الموت مفرّقهما جسداً. رسمها يعرب في لوحة فنّيّة استغرقت تسع عشرة ساعة.
داوود:
«هذا الواقف أمامك يا صباح كالمسخ عارياً من الأخلاق والضمير والثياب، حاصل أو كاد أن يحصل على إجازة جامعيّة من كلّية الطبّ البشري. أنا المجرم المدمن التابع لخلية قتل وإجرام لا أعلم عنها شيّئاً». (الصفحة 153).
داوود زعترجي: 55 عاماً، معتقل سوريّ سابق بتهمة الانتماء إلى حزب إسلاميّ. كان الماء والملح الوجبة البارزة له طيلة عامين متواصلين في زنزانة انفراديّة. أطلقت السلطات السوريّة سراحه عام 2012م بعد أن غسلت دماغه عبر التعذيب والمخدّرات، وبرمجته عصبيّاً لصالح أجهزة المخابرات التي فرزته إلى باريس تحت إمرة نجوى البحتري؛ لتصفية اللاجئين المثقّفين والناشطين المدنيّين والإعلاميّين، فصار فصاماً حقيقيّاً. فُقِئت عينه ذات شجار مع شباب من شمال أفريقيا. يقطن في ضاحية «سان دوني – Saint Denis» بباريس. أصيب بداء الإيدز الذي انتقل إليه من خلال مضاجعته للقاتلة المغربيّة صباح الراسي.
غالب:
«أعطني لفافة باكستانيّة مدعومة، رغم كلّ القذارات التي ارتكبتها في حياتي، إلا أنك والحشيش أسوأ ما حصل لي». (الصفحة 96).
غالب عنقود: شغل منصب المدير الفعليّ لتنظيم إرهابيّ سرّيّ مدعوم ومموّل من المؤسّسة العسكريّة في دمشق. تقلّد مناصب عديدة في سوريا قبل منصبه الإجراميّ هذا. حاصل على الدكتوراه في القانون الدوليّ من جامعة «السوربون» الفرنسيّة. يجيد اللغة العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة.
نجوى:
نجوى أمّ فراس: زوجة وهيب، المسؤولة المباشرة عن كلّ عمليات القتل والتصفية والاختطاف، بالتعاون مع غالب الذي ادّعى في بيت يعرب بأنه حمدان التقي. غالب كان رجلها المخلص والوفيّ. تطلق القيادة عليها لقب «الأم عقرب الصحراء». لم يكن نشاطها مقتصراً في فرنسا فحسب، بل كان لها قَتَلَة مأجورين في عموم أوروبا. كان القتل باستخدام مهابل العاهرات التي تغرسن خناجر الإيدز في قلوب الشباب سلاحها الفتّاك. هي مَن خطّطت وقتلت يعرب برصاصتين في ظهره.
أعماق الرواية:
الاختلاف هو رونق الحياة وأصلها وقائمة على التضادّ في تكوينها الفيزيائيّ. إن تلاقي الأفكار والآراء في الأسَر العريقة بعقليتها وتربيتها ومشاعرها سبّبت في ازدهار كثير من المجتمعات والأمم، لكن إن كان هذا التلاقي في أسَر أمّية أو جاهلة أو متطرّفة أو مستبدّة فتخيّلوا النتائج الكارثيّة! خاصّة في ظلّ وجود نزعة استئصاليّة وخوف من الآخر المختلف عنّا، وتعصّبه للإيمان بفكرة واحدة لا جدال إلى دونها هي من علامات التخلّف والانهيار الوجدانيّ والروحيّ، الذي يوصل بنا إلى عبثية الأرواح وانعداميّة الضمير والأخلاق. إذاً تنوّعنا الفكريّ أو اختلافنا لم يكن يوماً لكي نتناغم جسديّاً ونفسيّاً، بل لكي نتطاحن فكريّاً واجتماعيّاً...
حاول الروائيّ السوريّ أحمد خميس جاهداً وبلغة فطنة تصوير فجائع ومواجع حصلت في زمكانيات جمْعيّة مختلفة ومتنوّعة، رغم عدم خوضه بنفسه حتى الآن لأرض المعركة الأساسيّ، (وأقصد هنا مدينة باريس والأماكن الجميلة التي أوردها في روايته)، فكان كاتباً صادقاً ولغويّاً حذِقاً وطبيباً نفسيّاً استطاع وبفلسفته وخبرته العمليّة تصوير وتفكيك البنية الفكريّة والفنّيّة للواقع والشخصيّات والمستقبل بأبعادها التربويّة والنفسيّة والاجتماعيّة والإيديولوجيّة والسياسيّة.
لقد خلق لكلّ بطل شخصيّتين: شخصيّة مونولوجيّة جذّابة مسرحيّاً وروائيّاً، وشخصيّة ديالوجيّة تراجيديّة تمثيليّاً، فكان الدم واللحم والهمّ رابطاً مقدّساً بينهما. فبشارة العازف الهادئ الناعم والعاشق الجميل الذي يقود قضايا أخلاقيّة وفكريّة في الجدار العربيّ الهشّ يتحوّل مع ذاته إلى ثائر ومتمرّد على موجودات الحياة والواقع، محاولاً الانتقام منهما بكلّ إمكانياته. فيما يعرب الرسّام المتواضع الذي يرفض لقب الفنّان من حبيبته برناديت، والانصياع لبعض تدخّلاتها وتجاوزاتها الحمقاء في خصوصيّاته وقراراته يتحوّل في بيته ومع لوحاته إلى فنّان حقيقيّ يحاور وبنقاء واضح ومطلق مع أصدقاء الثورة والتظاهرات، الشامخون في اللوحات التي رسمهم فيها. سيلينا العاشقة والأرملة ومنكسرة الخاطر، التي أطربت قلب حبيبها بشارة بصوتها الأوبراليّ، وبعد أن يتركها الأخير تتغيّر حالها وأحوالها ونظرتها لمفاهيم الحياة، فتترك باريس وتتّجه إلى بغداد وتحديداً إلى دار الرحمة للمسنّين، لتكون راهبة في خدمة أولئك الكبار. أما داوود الذي امتهن القتل والإجرام، فكان السواد يجري في دمه ويتبختر في أحاسيسه، ليستيقظ ضميره فجأة، فيخبر الأمن الفرنسيّ، ويكشف له أسرار وخبايا الخليّة الإرهابيّة السرّيّة التي يعمل فيها كقاتل.
هذه الشخصيات وغيرها ممّن أدّت أدوارها في الرواية كانت ضحايا غسيل الأدمغة، الذي حرص النظام الاستبداديّ في دمشق على تفعيله بعناية فائقة، حيث وضع إمكانياته التكنولوجيّة والدبلوماسيّة والماليّة وبدعم من حلفائه في خدمة قَتَلَة مأجورين يتقمّصون الأدوار ويمتهنونها، يديرها إدارة سرّيّة نافذة ومحصّنة، لتصفية كلّ مَن يقف في وجهه حتى لو كان بإقامة معرض أو حفلة تبرّع موسيقيّة، رفضاً منه لعدم تأليب عموم اللاجئين في أوروبا ضدّ مواقفه من الحرب والثورة، زاعماً أنهم (اللاجئون) يمتلكون القدرة على الإقناع والتأثير؛ لأنهم فنّانون ومثقّفون أولاً، ولأن مساحة الحرّيّة في بلد اللجوء تمنحهم فرصة حقّ التعبير.
يرى الكاتب السوريّ هيثم حسين أن «كلّ تفصيل صغير أو كبير من تفاصيل العمل الروائيّ، سواء أكان متعلّقا بالشكل أو المضمون، بالأسلوب أو الفكرة، بالطرح أو المعالجة والتناول، بالحجم، سواء كان من باب الطول أو القِصر، متانة الحبكة أو هلهلتها، يمكن أن يتحوّل إلى نقطة قوّة هادفة، أو يغدو عيباً هادماً من عيوب العمل»، فقيامة اليتامى عانت من فصول ترنّحت على بعض من تلك التفاصيل، فكانت بعيدة عن الرؤية – الكتابة الروائيّة، كالفصل السادس والعشرين الذي واجه مللاً مرهقاً إضافة إلى الكثير من الفقرات والحوارات، فكان الأجدر بالروائيّ صياغة السيرة الذاتيّة المرسلة إلكترونيّاً لعملاء التنظيم صياغة حكائيّة أكثر قوّة؛ فالعناصر الروائيّة تتكامل لصياغة عالمها المأمول، وأيّ إقصاء لأيّ عنصر على حساب الآخر يأخذ بتلابيب الرواية إلى هذه الضفّة أو تلك، ويشكّل عبئاً مرهقاً عليها يسيء في الوقت الذي يراد منه التجميل، كما كانت للرمزيّة المباشرة أفعالها الإجراميّة في خلق خيال خالٍ من الخصوبة الفكريّة في عقلية القارئ، رغم دهشة الاقتباسات التي ستكون لها مستقبلها في عقلية الإنسان الحديث.
سؤال الهواجس:
قبل الانتقال إلى الحلقة – الفقرة الأخيرة من هذه القراءة الأدبيّة، التي أبكتني لحظة اقتحام بشارة بكرسيّه المتحرّك منصّة معرض صديقه يعرب، لفتت فكرة عميقة انتباهي، لربما هو هاجسي الدائم في أن المثقّف العربيّ ينظر للكرديّ وقضيّته المصيريّة العادلة بعين الشفقة المفرطة. بنيامين شخصيّة كرديّة مسنّة في الرواية، والذي ولد في بغداد وأكمل بقية حياته في دار الرحمة، كنت أتساءل طوال قراءتي للأحداث: ما الذي دفع بالكاتب أحمد خميس إلى إطلاق اسم بنيامين على شخصيّة كرديّة، واسم يعرب على شخصيّة عربيّة، خاصة وأن اسم بنيامين عندما نقرأه يقودنا تلقائيّاً إلى إسرائيل وفلسطين، وأن الأول (إسرائيل) تدعم بناء دولة للكرد، هذه الدولة التي يراها العرب بأنها طعنة خنجر في خاصرة خريطة الوطن العربيّ الممزّقة سياسيّاً ودينيّاً وثقافيّاً؟ ما الرسالة السياسيّة والإنسانيّة التي أراد أن يوجّهها بعد وفاة بنيامين، الذي شبّهه بالممثّل والمخرج الأمريكيّ «دينيس هوبر»؟
تَرحل بنا قيامة اليتامى بوقائعها الأشدّ صدقاً وعنفاً معاً، وبعالمها الخياليّ والواقعيّ المترنّح بين تسامح «اليوتوبيا» وتجاسر «الديستوبيا» إلى حاضر ملعون بماضٍ تعيس، لتبني أولى أساسات مستقبل بتخيلاته المجتمعية العنيفة، حيث غسيل الأدمغة إما إجباراً من وحوش الأنظمة المستبدّة ومشتقّاتها من تجّار وفاسدين ومثقّفين مؤدلجين، أو طواعية عبر المؤسّسات الأوروبيّة المعنية بضرورة اندماج اللاجئ بطرق وأساليب علميّة مدروسة، ليعتمد أحمد خميس في عرض أحداث الرواية وتطوّراتها السرد بلسان بضمير المتكلّم المُقاد من أبطاله الأربعة، والذي يحيل على ذواتهم، أو الكاتب الذي يروي من الخارج، فيتحكّم في مجاهيل النفس وغيابات الروح أمام قضايا الاغتراب واللجوء والحبّ والتضحية والشهامة والقتل والإجرام... الخ، فالسرد في هذه الرواية يتوغّل إلى أعماق النفس البشريّة، فتنكشف له أحاسيسها وهواجسها ونواياها بلغة عفويّة وصادقة، ما يشدّ اهتمامه ويجعله أكثر تعلّقاً بالأبطال وقضاياهم، وتعاطفاً معهم في رحلة الصراع لأجل البقاء نقيّاً شهماً مخلصاً، وتشوّقاً إلى معرفة ما تسفر عنه الأحداث الغريبة والسوداويّة السرمديّة.
يتخذ ابن مدينة الرقّة الفراتيّة من ثيمتي غسيل الأرواح التي أنتجتها الأنظمة الديكتاتوريّة وخبايا الحياة، والشهامة كقيمة إنسانيّة وفضيلة أخلاقيّة، حدثاً مركزيّاً في روايته الواقعيّة الممزوجة بالرومانسيّة والجريمة، هي رواية تشتغل على المستحيلات التي باتت تحقيقها وعيشها بأمان مرهوناً بالكابوسيّة الحياتيّة ومدى التخلّص منها كالحبّ الصادق والتضحية النبيلة ومواجهة الإجرام القابع في غلّ إدارتها، محاولة أن تبني فرضيّة جديدة أمام واقع خيّم عليه شبح الفقد والذاكرة المغتالة من الموت والضياع، لتسألها سؤالاً فلسفيّاً بخطّه العريض: لماذا وصلنا إلى هنا؟!
فيما يلي، اقتباسات – أقوال وردت في الرواية، وارتأيت أن أنهي بها قراءتي الأدبيّة هذه:
· انتزعوه من أرضه ذات يوم كانتزاع العيون من محاجرها. لكن روحه بقيت هناك تصلّي الفجر جماعة تؤمّ أرواح الغائبين.
· حتى الوسائد مزيّفة هنا، وحدها حشوة القطن أو رائحة الصوف مَن تجعل للنوم ألف معنى وللأحلام حكاية لا يعلم حقيقتها إلا الفراتيّون الذين يعتلون الأساطيح صيفاً، فيوقظهم صراخ الشمس الذي يحملهم متثاقلي الخطى نحو الحقول والمزارع.
· عقليّة الثأر لا تبني الدول.
· أن ترى الرصاصة يعني بأنك قد مُتّ.
· اسمي يعرب قادم من الشرق على بعد كثير من الحروب والأموات والأحزان، على بعد كثير من الحبّ والأشواق والمآسي من هنا.
· للأماكن تأثير عميق ومباشر في تغيير سلّم المزاج صعوداً وهبوطاً، رغم أنها تبدو ساذجة حتى في أوج جمالها.
· في باريس تختلط عليك الوجوه، حتى لتحسب أنك تسير في حديقة للبشر، يمكنك الاستمتاع بجميع الأعراق والألوان والثقافات، وكلّ منهم يرتدي زيّه ويتّشح بأسلوبه وفلسفته، ويجاهر بها أحياناً.
· لو أننا نستطيع السفر بعيداً عن أرحام أمّهاتنا والسباحة في أرحام أخرى، لما كنا على ما نحن عليه الآن.
· الحدود تعني نهاية الأشياء، وبداية أشياء أخرى.
· ما معنى من قيام رجل بوضع ساعتين جداريّتين متجاورتين، إحداهما بتوقيت باريس، والأخرى بتوقيت الشام؟!
· غياب القاضي العادل لا يعني انتفاء فكرة العدالة.
· أجمل ما في الأقدار أنها حتميّة، لا تراجع ولا خطأ ولا اعوجاج فيها، لا نستطيع الفرار منها مهما فعلنا ومهما امتلكنا من قوّة ومَنَعة، إنها قاسية أحياناً. قاسية إلى الحدّ الذي نعتقد فيه أننا لن نقوى بعدها على الاستمرار والمواصلة، ولكننا وفي لحظة ما، في لحظة قدريّة أخرى نرى وكأنما ظلال يد امتدّت نحونا لتنتشلنا ممّا نحن فيه.
· اللجوء كلمة لها رائحة، نعم لها رائحة، قد لا يصدّق البعض ذلك، رائحتها تؤذي الروح كثيراً، فتتلف على إثرها المشاعر والأحاسيس. نصبح كالقربة المثقوبة ننزف دمعاً ووجعاً أينما تولّينا.
· أؤمن بأن الروائيّين يكتبون أنفسهم في صفحاتهم فيقتلون ويعشقون ويدمّرون، لكن أن يؤمن القارئ بشخصية كتبها شخص آخر، هنا فقط تدرك بأن ذلك الكاتب كان يكتب لك دوناً عن سواك، يخاطبك ولا يخاطب أحداً غيرك.
· للمعتقلين فلسفتهم الجنسيّة الخاصّة، يعيشون الهواجس والخيالات، يضاجعون مَن يشاؤون، يمارسون ساديّتهم ومازوشيّتهم كما يريدون. ليس لأحد على الخيال من سلطة. الخيال خنجر ذو حدّين بالنسبة للمعتقل.
· قلوب العاشقين هشّة، وتحطيمها قد يتوقّف على نظرة أو كلمة أحياناً.
· في المنفردة تضمر الأحلام كضرع شاة في الخريف، وتصبح الزنازين والمهاجع فنادقَ بسبع نجوم.
· نحن أقوى حينما نُخذَل، أقوى إذا ما عزمنا الرحيل، مَن قال بأن الهروب جبن فهو لا يعرف ماذا يمكن أن يفعله البقاء.
· الموت لا يكفّر الخطايا، بل هو أوّل مراحل الحصاد والعقاب.
· قد يعشق الرجالُ الرجالَ، ولكي لا يدخلوا في سجالات المعاني أطلقوا على ذلك اسم الصداقة.
· حبّ الوطن وَرم يصيب قلوبنا.
· العجز أحياناً يدفعك لابتكار وسائل جديدة للتعايش والتكيّف مع ذاتك قبل الآخرين.
· الكلمات تفقد عذريتها إذا ما حاول العقل إعادة ترتيبها.
· النور ليس ما نراه، بل ما نشعر به.
· تنازلاتنا في الحبّ شهامة.