-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

تسكّع في ذاكرة الألم


خديجة بلوش

 

أستيقظُ كما تفعلُ بقيةُ النساءِ، أُرتبُ غرفاً ضاقت بأحلامِ ساكنيها وأزيحُ الغبارَ عن ملامحَ ظلَّت معلقةً بينَ الفرحِ الشحيحِ والحزنِ الباذخِ لعقود، أتحاشى المرورَ بمرآةٍ وحيدةٍ في الفناء، قيل لي إن المرايا تجلبُ البؤسَ والشياطين.

-         لا تُزيِّني بيتَك بالكثيرِ منها.

-         حين يصبحُ لي بيتٌ سأفكرُ بالأمر.

أسمعُ النصائحَ من امرأةٍ تساقطت أسنانُها الأماميةُ كلُّها ولم تبلغْ بعدُ الخمسين فأسأل نفسي هل بعد حزمةٍ من السنواتِ سأصبح مثلها؟ أتجاهلُ صهيلَ الأصواتِ الكثيفةِ داخلَ جمجمتي، فأنا وحيدةٌ بأيّ حالٍ وما من تفاصيلَ قد تخففُ من هذه الشكوكِ داخلي.

-         لستِ وحدَكِ…

الصوتُ يزورُني بين الفينةِ والأخرى، حين أكونُ بأشدِّ حالاتي وجعاً، حين يخنقُني الألمُ فلا أقوى على التنفسِ، جسدي الذي أرهقتْه الصَّباحاتُ والمساءاتُ المتكررةُ للتسكّع.

-         لستِ وحدكِ. أنا معك.

أتجاهلُ الصوتَ ما استطعت، أتجاهلُها، أتجاهلُني، ولكن لم أجدْ بعد صيغةً ناجحةً لأتجاهلَ تعبي وهذا الوهنُ الذي يقطفُ أجملَ لحظاتي تباعاً.

-         توقَّفي عن إرسالِ كلِّ ما تكتبينه للعابرين ليومَك.

-         أنا أُنظِّفُ ذاكرتي... لا أكثر.

-         فهمت الآن، تُلقين بما تجودُ به قريحتُك على قارعةِ فضولِهم.

أرفع رأسي عن الكتابِ الذي مددته منذ ساعات على صدري، أجوبُ المكانَ بنظرةٍ وجلة، من أين يأتي الصوتُ الأخرقُ الذي يقضُّ صمتَ وحدتي؟ ما من أحدٍ في الجوار، فقط أنا وبضعُ أجسادٍ مُسْجاةٍ على أسرةٍ كئيبةٍ بأغطيةٍ قذرةٍ وحشرجاتٍ لمنكوبي الوقت، يستعرُ وجعُهم لِيَلتهمَ الصمتُ الذي كنتُ أرتجلُه.

-         لا يليقُ بكِ هذا المكانُ، تعالي معي.

الصوتُ نفسُه بيقينٍ أكبرَ يطاردُني، لستُ مجنونةً، لا أتخيَّلُه، هو واقعٌ ألمسُه كما ألمسُ ندوبي البشعة.

-         مَن تكون؟

-         وكيف عرفت أني لست أنت؟

-         صوتٌ خشنٌ وعميقٌ لا يمكنُ أن يكونَ صوتي، حتماً أنا لستُ رجُلاً.

-         تعجبُني ثقتَك بنفسك.

-         شكراً على الإطراء.

بيني وبين نفسي أعرفُ أنَّ الإطراءَ فعلٌ أكرهُه، ما زلتُ هنا في كنفِ الصباحِ المتأخرِ أحاولُ ترتيبَ فوضى نفسي وفوضى المكانِ الذي يحتضنُ نُفوري من ذاتي، مِن وضْعٍ كلما حاولْتُ أن أقصَّ الشوائبَ عنه تناسلَ كما نباتٍ متسلقٍ بغيض.

-         سأستغلُّ حضورَك المقتضب.

-         حبذا لو تفعلين.

-         سأرسمُك داخلَ إحدى فقاعاتِ حلمي، قد تنفجرُ الفقاعةُ ويختفي اسمُك، وقد ترتفعُ في فضاءاتِ هوسي وأقدرُ نظرتَك، لن تضحكَ الآن، أنت خيالٌ محض، هكذا أُحدثُ نفسي حين يغيبُ الصوتُ عن مسامعي، لكن مشكلتي تكمنُ في لحظاتٍ قد تتجسدُ فيها كاملاً كما كانت الأخرى تفعل.

-         احم... احم. أنا لست هي.

-         أعرف. أنت شخصٌ بغيضٌ تستمرُّ في التلاعبِ بخيالي السَّاذج، كانت الأخرى فتاةً مجنونة.

-         هيَّا ارسميني، وأخبريني كيف أبدو في عقلِك الباطن.

-         أخبرني أوّلاً عن عمرك.

-         لنقل إني بمثل عمرك، أو أصغرُ قليلاً.

-         إلى أيِّ حدٍّ قد تبدو أصغر؟

-         تخيلي......

-         لا أريدُ التورطَ مع طفل.

-         هاهاهاها...

تتسابق أناملي لترسمَ نصَّاً مقتضباً قد يشبهُك، تنهمرُ الكلماتُ فأغرقُ في نصِّ متناهٍ، متطرفٍ، بلا حدودٍ تردعُه.

-         فشلت.

-         طيب. هل تحبين أن أتقمصَ شيئاً تحبينه كي تراني أناملُك الخائفة؟

لم أكن ضريرةً كي أراكَ بحواسي الأخرى، أنا في كاملِ ترهلِّ وعيي لكني أجيدُ التكهُّنَ بحرفٍ ما أن يطأ علبةَ بريدي الصغير، أتسللُ كي أقفَ أمامَ المرآةِ الوحيدةٍ، انظرْ إليّ، كي أراك، نظرتي التي تشبهُ بركةً عسليةً والبياضُ الذي يشوبُه الاحمرارُ، أنفي الذي يشبُه قطعةَ رخامٍ ضخمةً (تقول أمي إن أفظعَ ما قد يُبتلى به المرءُ أنفٌ مثل أنفي الذي تجدُه ضخماً بشعاً). حاجباي العريضان، وشعري الذي كان طويلاً، تختفي جدائلي في المرآةِ كي تصيرَ خصلاتٍ قصيرة، تتلونُ نظرتي بلونٍ أغمق، يختفي الاحمرارُ ويرتسمُ أنفٌ آخر، تكتسي لحية كثة وجهي.

-         لستُ طفلاً، هذه بدايةٌ جيدة.

-         هل أعجبُك؟

-         مغرور أيضاً، لكن المرآةَ ستتصدّعُ الآن وستمزقُ الشّظايا وجهي، وحنجرَتي.

-         لا تغيري الموضوع.

-         أنت روحٌ أخرى، تتقمصُني.

أنسحبُ من أمامِ المرآةِ قبل أن أرى شيئاً أكثرَ ممَا تسمحُ به طاقتي على تحملِّه، لستُ بمزاجٍ جيد، الكتابُ يتراقصُ على تراتيلِ نبضي المتسارعِ، لم أغادرِ السريرَ وما زال الصراخُ يعوي في المكان، والأسِرَّة الأخرى تُصدرُ مزيجاً من موسيقى جنائزية.

-         الموتُ ليس سيّئاً.

-         توقفْ عن التحدّث إلي لو سمحت.

-         الموت شيء جميلٌ لو تجربينه.

-         وهل أعودُ للحياةِ إن لم أُعجبْ بما اقترحتَه علي؟

-         تملكين روحَ دعابة.

-         وأنت شخصٌ لا أستطيعُ التكهّنَ بما يمتلك.

أُغمضُ عيْناً وأتركُ الأخرى مفتوحةً على كلِّ المساحاتِ المتاحةِ لحدودِ تأمّلي، ما زالت الغرفُ تئنُّ بأحلامٍ تتكدسُ منذ سنوات، والمرآةُ الوحيدةُ تنهبُ من لحظاتي ما تشاءُ لتؤرّقَـني بها في لحظةِ تقمُّصٍ لشبحٍ ما أو طيفٍ شريد، كنتُ أسألُ نفسي عن السنواتِ الطويلةِ التي سبقت هذا الاكتشافَ.

-         اكتشافي لأشخاصٍ يسكنونني.

-         ماذا كنتُ أفعل، بما كنتُ أشعرُ، كيف كانت لحظاتي تمرّ؟

أتذكرُ الآن أني كنتُ أستحضرُ بعضَ مخاوفي كلّما استغرقْتُ في النّوم، كنتُ أحاولُ أنْ أتخلصَّ مني أنا لألبسَ روْحاً أخرى أكثرَ قوةً، أكثرَ قدرةً على تحملِّ كلِّ تلك الخيبات دون أن تقشرَ قلبي مثلَ حبةِ برتقالٍ غضّ، البرتقالُ حتما يتألمُ حين نعرّيه، وكذلك قلبي، كنتُ طفلةً وكنتُ أرتكبُ حماقاتِ النِّساء، كنت أحمِلُ مسؤوليةَ  الآخرين العاجزين عن حملِ أنفسِهم، كنت أحمل أجنةَ أمهاتٍ غاضباتٍ حتى يهدأَ نواحُهن من التغيراتِ الكبيرةِ وتهيّجاتِ الهرمونات، كنتُ أواسيهن في لحظاتِ انقلابٍ مَعدةِ أيٍّ منهن في الصباحاتِ الباكرة، كنتُ أحملُ عنهن شعورَهن بالتعبِ وإحساسَهن بالغثيانِ المتكرر، وبإهمالِ أزواجِهن، كنتُ أسلكُ تلك الطريقَ دونَ أنْ أنتظرَ شكراً منهم، يعودُ الصوتُ الخشنُ  ليسألَني.

-         عن أي أجنةٍ تتحدثين؟ عن أي أمهات؟

-         هذا شيءٌ لن تفهمَه، حتّى وإنْ كنتَ روحاً مقيمةً بجسدي، لكن سأشرحُ لك .. (ألم تعرفْ أني كنتُ يوماً جنينا؟ طيب!! كنتُ أحملُ نفسي بنفسي كي ترتاحَ حاملتي من وجعي، كم كنتُ ثقيلةً وكم كنتُ أسببُ لها الألم!! كلُّ ذنوبي كانت ترهقُها، كانت نحيفةً وكانتْ تكرهُ إنجابَ البناتِ مع أني كنتُ أولَ امرأة تحملُها بين أحشائِها، بعد أنْ أمسكت سنواتي).

-         التي شكَلت قَرابةَ العقدِ  بين كفي.

-         صرتُ أحملُ همومَ الأمهاتِ اللواتي يسكنَّ وجعي، أحملُ لهنَّ أجنةً خُلقت في رحمي دون أن يدرين، ولأن الغثيانَ مقرفٌ كنتُ أتلمسُ الطريقَ كلَّ فجرٍ في الأروقةِ داخلي كي أصلَ للشمسِ قبل أن يوقظَهن صوتُ تلك الصرخات…

الطريقُ طويلُ نحوَ توضيحِ الفكرة، أضعُ الكتابَ جانباً، الصباحُ يقتربُ من ساعاتِ استسلامِه للمساءِ والأسِرَّةُ تضجُّ بالحركة، والتسكّعُ انتهى لهذا اليوم، كما انتهت لحظاتُ ترتيبِ الرّفوفِ المتراكمِ عليها غبارُ السَنوات في ذاكرتي…

-         سأعودُ للبيت الآن، لا ترافقْني رجاءً إن تعمقْت في أسئلتِك سأجدني أردُّ عليك بصوتٍ مرتفعٍ وسيظنون أني صرتُ مسكونةً وهذا آخرُ ما أريدُ لهم أن يظنّوه بي، لا تغضبْ وحاولْ أن تجدَ طريقَك بعيداً عن تهيّؤاتي.

-         جبانة، الطريقُ تؤدي بي إليك لا محالة.

-         وداعاً...

أتقوقعُ على ذاتي حين أشعرُ بأن الفشلَ نفسَه هو النجاحُ الذي كنتُ أتوقعُه.

 

تعديل المشاركة Reactions:
تسكّع في ذاكرة الألم

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة