-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

فصل من رواية «سيرة طريق» لـ «جوان زكي سلو»

 


حينما ارتفعتْ أعمدة دخان الموت، أعمدة سوداء في سماء رمادية، وعلتْ من بين الخرائب، وانتشرتتلك الرائحة العفنة، حتى استحوذت بالحواس كلها، فجعلتْ من الوجوه المتعبة لوحاتٍ تراجيدية، تحكي الأسى، لوحاتلن يفهمها سوى الموتى المستقبليون، والفقراءمنهم قبل الجميع، لأنهم الأقدر على دفع الفاتورة. وتلك القوافل المُحمّلة بالوطن، في حقائب سفر من جلود حامليها، قد امتلأت بحكايات لا تنتهي، عن الحزن الدفين من تجارب سابقة، ترسم عبر خطوات طالبي اللجوء خرائطَ جديدة، لعالم بلا حدود.

إنّ من الخير أنْ يخوض الإنسان معركةً حقيقية، ولو لمرة واحدة في حياته، حرباً لا قائمة لها، وتنتهي الحياة من بعدها، مهما كان الثمن، لأن خسارة الحاضر أحيانا، قد تكون انتصارا للغد.

فيما مضى، كنت أتخيّلوجوه وأفعال عناصر دولة الخلافة الإسلامية، في العراق والشام (داعش)، وأشباههم، وأقرأ عن المعارك والحملات، التي قامت ضدهم، عن طريق الإعلام فقط، وأستمع لأقوال وشهادات بعض الناجين، والهاربين من تلك المعمعة،باستغراب شديد، فلم تكتمل المشاهد في مخيلتي، حتى رأيت كل شيء بنفسي، كل ذلك الدمار في الأنفس قبل الأبدان،وعرفتُ فيما بعد، بل وأيقنتُ، أنّ الرجال ليس وحدَهم، منيجب عليهم مقارعة الخوف، بل النساء أيضا، مرة واحدة وإلى الأبد، وبغير ذلك لا تستقيم الحياة.

لذلك لا ضيرَ من نبش الذكريات الدفينة في أعماقنا، بحثاً عن الراحة، بأن نعترف بمخاوفنا وهواجسنا للريح، بأن نحُكَّ الجروح المتقرّحة على أجسادنا، ونترك الدماء تسيل من قيحها المتيبس، حتى نتذوّق من خلالها، الإحساسَ بالآخرين، أولئك الذين خلّفوا وراءهم أسئلة، لا إجابات لها، سوى أحداث متكررة يومية أليمة، وشواهد لمقابر مترامية، وبعض الدموع والآهات، فهناك خلف تلك الأسماء والأسئلة، تسكن الحقيقة.

ذات نهار، سمعت حكمة من رجلٍ، أكلَته السنوات، ولاكتهُ كلقمة سائغة، بين أسنانها العوجاء:

- إنّ من يرحل دون أن يعلم برحيله أحد، سيبقى أبد الدهر ضائعا بلا ذِكر، تائها في ضباب الزمن، ولن يجد من يحتويه، وسيُمحى اسمه من سجلات الحياة، وكأنه لم يكن، كنسمة هواء خريفية عابرة، حرّكتْ في هبوبها، ورقةً يابسة من غصن ما، حتى هوتْ تلك الورقة، وتطايرت دون أن تترك لنفسها أثراً لدى غيرها.

لأجل ذلك، فمن المعيب فيعصرنا الإلكتروني هذا، والعولمة التي وصلنا إليها، أن أكون شاهد عيان بلا استشهاد، وأكتفي بالصمت والنكران، مهما كانت ظروفي أو قناعاتي، أن أكذّبَ عينيّ عن رؤية الحقيقة، وقلمي من كتابتها، بكل ما تحملها المجريات من مآس ومسرات، عليّ أن أتحدّث عن الواقع الذي لولاه، لانحدرتْ حياتي أكثر، في مستنقع النسيان والفاجعة.

كثيرةٌ هي الأوقات التي كنت أسأل فيها نفسي، إلى متى سأبقى في وطني الخرِب هذا؟ ولماذا لم أهاجر؟ بحثا عن الأمان، كما فعل الكثير من أقراني، جيراني، وأبناء جلدتي، فالأزمة خلقت في دواخلنا ووجداننا الكثير الكثير من التناقضات، وباتت الساحة مكشوفة للأنفس الفاسدة، كي تمارس غيّها، على من بقي في الوطن، غير آبهٍ للمآسي التي خلّفتها الحرب فينا.

لكنني قررت أن أتجاوز كل هذا الحزن والخيبة، حينما وقعتْ عيني على صور عدة، إحداها لطفل يتيم يحمل صورة والده، والأخرى لأحد الشهداء، والثالثة لامرأة تعفر رأسها بالتراب، ومن خلفها يظهر بناء متهدم وأشلاء متناثرة كقطع الزجاج المكسورة، لتتهاوى حصوني الهشة, وأصبح عاجزا، أمام دموع أمهات الشهداء وذويهم، فليس كل من يحمل السلاح، يقصد العبث بحياة الآخرين، لأن هناك في الجهة المقابلة لمرآة الواقع، منْ يحملها، لأنّ ظروفه الموضوعية، قد حكمت عليه ذلك، وفرضت نفسها عليه، كي يدافع عن معتقداته، دون أن يكون له علمٌ، بالثمن الذي عليه دفعه، ليبقى هكذا، ويعيش على هذا المنوال، حتى تستردّ روحه ألقها، وتنتعش حياته بأمل الخلاص.

توتّرٌ وترقّب، انتظارٌ بحسرة مريرة، وقلقٌ لا معنى له، سوى أنني أكره الانتظار، أعيش أيامي دائما هكذا، في عجلة من أمري، فما يهمني هو أن أنجز ما أهدفُ إليه، بأقصى سرعة، ولذلك، يتولّد في داخلي قلقٌ، من عدم تحقيق ما كنت أصبو إليه، حتى بتّ أخاف أن أفقد الأمل من ذلك، ففقدان الأمل أمرٌ مؤلم جدا، ومخيب للرجاء، فكل تلك الأشياء المضطربة، خطيرة جدا، عندما تجتمع معا، فهي مجهولة المعالم، وعديمة الرائحة، وبطعم التشرّد، ومجبولة بطحين الألم السرمدي.

كل تلك المخاوف كانت كوجوه مشوبة بالصُفرة، تنعق في وجهي كل صباح، كنعيق الغراب، أراها تصاحبني ليل نهار، تتبعني دائما كظلي، حتى خلتها ستظهر لي، ولو في انعدام الضوء، وباتت ترافقني لأيام، لا عدَّ لها، خلقت في داخلي ارتباكا، ما بعده ارتباك، وكأنني أمام امتحان عسير، لمادة الكيمياء، التي استصعبتها منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية، فتلك الرموز والمعادلات، لم تفكّكها أو تحلّها تلافيفُ دماغي، مهما حاولت، لقد منعني كل هذا التوتر من النوم باسترخاء وهناء.

كلما حاولت أن أغلق عينيّ، دون أن أفكر بالموضوع، الذي شغل تفكيري، لأيام وأسابيع، أجد تلك الهالة، تومض مرة أخرى في مخيلتي، تشعّ كنور ساطع، وسط الظلام، فأفتحهما مجبراً، غير مصدق لما آلت لها حالتي، في هذه المدة التي تجاوزت الأسبوعين أو الثلاث، متسائلا كل مرة، هل ما أشعر به من قلق وارتباك لكل تلك الأسئلة، هو أمر طبيعي؟ أم أن الموقف الذي وُضعتُ فيه، هو السبب في ذلك؟

وفي محاولة لكسر هذا الهجوم المباغت على ذاكرتي، رحتُ أبحث في صفحات الانترنيت المنّوعة، عمّا أروي به ظمأي، عمّا يذكرني بهويتي، وبالتاريخ الذي يربطني بهذه الأرض، وأفتّش في صفحاته، عن مقاتلين؛ أنا على موعد لألتقي بهم، فلابدّ لي من أن أقرأ الكثير عنهم، استعدادا لهذا اللقاء، لذلك بحثتُ عن المقابلات الصحفية، والتقارير الميدانية، فشاهدت العديد من المقاطع المصورة للمعارك، صحيحٌ أن هؤلاء المقاتلين مجهولو الهوية، ولا معرفة مسبقة لي بهم، إلا أن سمعتهم تسبقهم، وباتوا أشهرَ من نارٍ على علم، كلّ الأنظار ترنو نحوهم، وكل الشفاه تتحدث عنهم، حتى أعداؤهم أيضا لا يكفون عن وصفهم.

فمنذ أن بدأ الصراع والقتال في وطني، حتى أصبحتهذه الأرض السورية ميدان معركة كبرى، وكأنها حرب عالمية ثالثة، كل القوى العالمية، أرادت أن تجعل لنفسها موطئ قدم،وفعلت ما عجزنا عن تخيّلها. أما نحن، الشعب الذي يعيش عليها، فلا حول لنا ولا قوة، هرب منّا من هرب، ولجأ من التجأ، ومات من مات، وبقي عليها من يستحق العيش والحياة أو حتى الموت. فالذين أصابهم هذيان الحروب لم يتغير عليهم شيء، ولن يكفّوا عن التصديق بأن حضارة الشوارع والسلاح يمكن أن تهبهم شيئا سوى الضياع، ليبقوا ذاهلين في غيبوبة خلف سراب الذكريات، متشبثين بتلك الأحلام التي رافقتهم طوال حياتهم التعيسة، وباتت كوعودٍ من حطب جاف، تتوق إلى أصغر شرارة.

عملتُ جاهداكي ألتقي بهم، أن أراهم، أحدّثهم، أسمع قصصهم، ولذلك كان لابدّ لي، من طرق كل الأبواب الموصدة في وجهي، سعياً وراء هدف، أنا في أمسّ الحاجة لتحقيقه، لأحقق ذاتي أولا، وأخلّد تاريخا، من الغُبن أن يُمحى أو يُنسى ثانيا، ليتمّ إعلامي قبل زيارتي هذه- بساعة واحدة فقط- بضرورة التأهب، للذهاب للقاء أشخاص لا أعرف عددهم، فهويتهم مبهمة بالنسبة لي، كل ما يهمني أن أسير في دربهم، أقتفي أثرهم، أن أعد الكيلومترات حتى أصل إليهم، خلف تلك التلال البعيدة.

بهجتي بلقائهم،جعلتني أسهوعن ارتداء ساعتي الفضية،على حافة الطاولة، الساعة التي أهدتني إياها زوجتي، بمناسبة ذكرى زواجنا العاشر،فقد كنت أريد منها، أن تشهد لحظة لقائي بهم، وتسجل في سجلها اليوميتلك اللحظة بالذات، وترقمّها، فذات يوم، سأنظر إلى روزنامتي الورقية، وساعتي الفضية بجانبها,وأحدثهما،"لقد حدث في مثل هذا اليوممن العام الماضي، أو الذي قبله كذا وكذا".

كان فنجان قهوتي ما يزال أمامي، حين تلقيت ذلك الاتصالالمفرح بالنسبة لي،القهوة التي بعبقها ذيالنكهةالمحترقة، يخترق عنوةًحاسة شمّي، ارتشفتُ الرغوة العجيبة،فأنا أعشقها أكثر من المشروب الساخن نفسه، مستمتعا بتذوقها في تلذّذ، تبعتْها رشفات قليلة، شعرتُ بمرارتها تسير بحرقة على لساني، حتى هوت تلك المرارة وبنشوةٍ إلى داخل معدتي، ابتعلت شيئا من الماء،كي يبدّد بعذوبته تلك المرارة المتكومة على أبوابها، من ثم وضعت الفنجان على سطح الطاولة بحرص شديد.

تأملت فنجاني برهة، وفكرت في غرابة هذا الطعم العذب للقهوة، وفي تلك اللحظة بالذات، شعرت بأنني قادر على الكتابة، فأشعلت سيجارة نائمة، ورحتُ ألاحقُ دخان الكلمات التي أحرقتني منذ أيام لا تحصى، دون أن أحاول إطفاء حرائقها فوق على صفحة بيضاء.


لكن هذا الحرص، لم يمنع من تسرّب بعض قطرات القهوة، على الطاولة، لأمسح آثار جريمتي، بعد أن لوّثتْ الطبق والطاولة معاً، حملتُ دفتري الصغير،فقد كنت أدوّن عليه فقط بعض العناوين والخطوط العريضة، لأي رواية أو قصة، أقرأها أو أكتبها،لكنّ دفتر الجيب خاصتي، لم يعد يحتفظ سوى بعددمن الصفحات البيضاء، فما سبقتها من صفحات، كانت عبارة عن خطوط، ورسومات متنوعة ومختلطة، بلا معنى، أنا فقط من يفهم رموزها، ربما كانت هذه طريقتي، كي أمنع أعين الناس، من التلصص على أفكاري،وفكّ طلاسم كلماتي،إلّا إذا أنا من سمحت لهم بذلك، نظرت من النافذة، لأستطلع الأمل المختبئ، خلف أسطرٍ من الخيبات المتكررة، خطوتُ باتجاه الباب الحديدي، الذي يفصل بين حدود هدفي وواقعي، كستارة أو حجاب، وفتحته، وكلّي رجاءٌ، بأن اقتحم غمار هذا العالم، وأعود منه ظافرا، خرجت مسرعا من البيت، وفاءً بالتعهد، الذي قطعته على نفسي، بأن أسير في دربي هذا الذي اخترته، إلى النهاية.

بدأتُ أدندنُ ببعض كلمات كانت قد عنّتْعلى ذاكرتي وقتها، وراحت فيها عيناي تتابعان بشوق، أية سيارة تمر من أمامي، وأنا أقول في نفسي: متى اللقاء؟

دقائقثقيلة مرّتْ عليّ،أحرقتني بلهيب الانتظار،بينما كنت أتابع سيل السيارات، التي تمرّ من أمامي بسرعة، مستذكرا كلام رجلٍ تواصلَ معي قبل ساعة، طالبا مني، أن انتظره في الموقف المحدد، عند دوّار حيّ الهلالية،غرب مدينة قامشلو، الحي الذي شهد بتلّته تاريخَ مدينة وُسمتْ بالعشق، حتى الغرق.

وها هيالآن تقف أخيرا، بجانب الرصيف، سيارةٌ كبيرة بيضاء اللون، ترجّلَ منها رجل ضخم أسمر البشرة، وخطا نحوي مادّاً يده اليمنى- مسلّما عليّ-تبادلنا نحن الاثنان التحية، بعد أن عرّفته بنفسي، وهو أيضا أخبرني باسمه، دون رتبته العسكرية،جلست بعدها في المقعد الخلفي، وسارت السيارة في شوارع مدينتي الفوضوية،بتأنٍّ، تجاوزت في مرورها، المطبات والحواجز، الأعلام والصور، المقابر والحدائق،مقابر لم أكن لأظن يوما أنها ستمتلئ بالموتى هكذا، وسترتفع شواهدها حدّ السماء، وخرجنا أخيرا من حدود المدينة، مروراً بأحيائها، شوارعها وناسها، من غرب المدينة حتى شرقها،وسارت على الطريق بين مدينتي قامشلو وديريك، حتى وصلت بنا السيارة إلى مفترققرية خزنة المؤدي إلى الطريق الدولي، بين قامشلو وبلدة تل كوجر الحدودية،على الحدود العراقية، آثرتُ الصمت طوال مدة الرحلة، سارحا في سكون الطبيعة، غارقا في خيالاتي المتشعّبة، أبحث عن الأسئلة التي ربما تجد الإجابات.

فجأة، أسئلةٌ تُلقى على مسامعي:

"إنْ كنتَ صحفيا، فأين الكاميرا؟ وإذا لم تكن كذلك، فماذا تريد؟ وكيف لنا أن نساعدك؟"

قالها فاروق لي، وأنا أرى انعكاس عينيه السوداوين،في مرآة السيارة، أسئلته هذه،أراحتني من حيرة بداية التعارف، وخفّفتْ من توتري، فبدرتْ مني ابتسامة مترددة، بين البوح والنجوى،فأجبته بكلمة واحدة:أنا كاتب.

سكتّ، ولم أُكمل بعدها، فقد ران صمتٌ غريب علينا لبعض الوقت، كسرتْهُ ألحانُ أغنية كردية فلكلورية مُبهجة، صدرتْ من مذياع السيارة، اندمجتُ سريعامع الأغنية الجميلة، وبكلّ بساطة، لم أجبه، لأني لم أُردْ أنأهتكَ سترَ روايتي، قبل أن ترى النور، أن أقطع الحبل السري، بينها وبين الواقع، فهمايجتمعان ويفترقان،يتناقضان ويتناسقان،تتعامد كل خطوطهما معاً،في آن واحد، فلاتستطيع الرواية، أن تغير من الواقع شيئاً، ولا الأخرى لها المقدرة على أن تسرد نفسها في قصص، لذلك، فهي بحاجة إلى الراوي، حتى تثبت نفسها في كلماته.

وكي لا أفسد متعة الطريق، غيّرتمن مجرى حديثنا، لأسأله عن الوجهة التي سنقصدها، والمدة الزمنية التي تستغرقها هذه الرحلة،لنصل إلى هناك، محافظا على سرية مهمتي، حتى اقتربت السيارة من حاجزعسكري، قبل قرية تل علو، وانعطفت بنا جنوبا عشرات الأمتار، استقبلتنا لافتة كبيرة، معلقة على أعلى البناء المواجه لنا، كُتب عليها فوج الشهيد(حقي آمد)، نزلتُ من السيارةعند الحاجز،مع الرجل الأسمر الذي استقبلني،لأجد المقاتل الذي يقف الواقف عند الحاجز، يخاطبه بقائد الفوج(فاروق)، ويُعلمه بمجريات أحداث ذلك اليوم منذ الصباح، تسلّقتْ عيناي ذلك البناء المقابل لي، أرمقه في زهوّ، وكأنني أمام قلعة عالية، ستفتح أبوابها أمامي بعد لحظات، صرتُ أطوف بنظري بين جنباته، أتابع الدرب الترابي الرطب، الواصل بين الغرف والمهاجع، حينها نظرتُ إلى أسفل قدمي، فما وجدتُ ظلّي، بحثت عنه بعين منكسرة، كي لا يشعر بضياعه أحد، وجدته قد سبقني، إلى غرف ومهاجع المقاتلين،ومحارسهم، ويعانق في تمرّده عليّ الظلالَ الطبيعية والبشرية والحديدية، المنتشرة في تلك البقعة النائية من التاريخ.

تقدّمني قائد الفوج - هفال فاروق- في المسير،حتى دخلنا إلى غرفةٍ كبيرة، لقد كان الفوجعبارة عن عدة غرف إسمنتية واسعة نوعا ما، ومتقابلة، في صفين متوازيين، وكانت الغرفة الكبيرة،مجهزةً بأثاث متواضع،فُرشتْ ببعض الوسائد، وعلى جدرانها، كانت صورٌ لعدد من المقاتلين الكورد الشهداء معلقةً عليها، هناك لفتَ نظري، وجه إحدى الشخصيات في الصور، بعينيه الغائرتين خلف حاجب كثّ، وشاربه الذي غطّى شفته العليا، وذلك الجبل الذي يختفي خلف ظهره، حدّقتُ فيه مطولا، وبقيت هكذا، حتى جلستُ بجانب المدفأة، عندها لاحظ هفال فاروق اندهاشي، وعطشي الشديد لمعرفة هوية هذا الذي شدني حضوره الماثل أمامي،سمعته يخاطبني: هذه صورةالشهيد حقي آمد.

علمتُ وقتها أنّني لم أُخطئ، عندما وصلت إلى هنا، لأنمن يتخذ من الجبل حصناً له، لن يسقط أبدا في الهوّة. اكتشفتُ في تلك اللحظة الحاسمة، ضآلة ما أسميها قوتي، أمام عظمة إيمانهم بالحياة، أيقنت أن معركة العمر هذه، إما ستكون سبباً لوجودنا أو لمحونا.

من خلال البخار المتصاعد، من أقداح الشاي الصغيرة، التي مُلئت توّاً من إبريق نحاسي، كان يغلي بأوراق الشاي، وينثر عبقه الدافئ في أرجاء الغرفة،تابعتُ وجوهاً مبتسمة، وأعينا حائرة تحدق بي،وشفاه ترتشف ذلك المشروب الساخن،في حين كانت أكفّ المقاتلين المعقودة في حجورهم، أو أمام صدورهم، تُعلمني بأنهم ينتظرون مني تفسيرا، مددتُ يدي لرشاش الكلاشنكوف،وقد كان بجانبي، تأملته مطولا، أبحث عن كلمات تروي عطشهم لحريةٍ، طال أمدها، لا أدري ماذا أقوله لهم؟ هل أخبرهم بأن للبندقية ذاكرة، كذاكرتهم، تحتفظ بالأنين، منذ لحظة خروج الرصاصة من سبطانتها،وحتى لحظة استقرارها في أجساد مغتصبي الأحلام، أو في قلوبهم، وأنها تسمع نجواهم، وبكاءهم، ضحكاتهم، وحتى همسات أمانيهم في ليالي الصيف المغبرة، وأمسيات الشتاء الباردةوالوحيدة، هل من الضروري أن أعبث بأحلامهم، بأسماء من رحلوا عنهم، مبتعدين دون وداع، أن أذكّرهم بوصايا أهاليهم، التي سقطت من على أكتافهم، لحظة دخولهم المعركة، وما يهمهم في تلك اللحظات العصيبة النارية، هو سلامة رفاقهم، لأن سعادتهم بالنصر، لا تكتمل إلا بسلامة ونجاة من تربطهم وحدة الهدف،سلامة إخوتهم في السلاح والدم، فهناك، لا شيء أقدس  لديهم من الدماء، كي تكون صلة وصل قوية بين القلوب، فالمشاعر لا تجيش إلا في حضور المصيبة، ومصيبتنا في وطننا كبيرة، كبيرة جدا.

إنّ الكدمات والندب التي استقرت في  أرواحهم لا يمكن معالجتها بالأدوية والعقاقير الطبية،فالمراهم لا تداوي الأرواح الممزقة،لأن شفاءها مرهونة بالوقت، وستزول مع مرور الزمن، لكن أرواحهم تنتظرالكلمات، لأنها وحدها من تشفي غليلهم، كما الطلقات، فهي بلسم الروح، وكنوع من المواساة، قلت لهم:

- أن نسير في النور، خير من أن نبقى واقفين في الظلام، بلا حراك.

عينا أحدهم،كانتا تحدقان بي بشدة، فيهما شوق كثير للحديث، دعوتهكي يجلس بقربي، عينان تنضحان بالحنين والأنين، كنبع فوّار،وبحديث لن ينتهي، شفتاه المطبقتان، في خطّ مستقيم على وجهه، تنتظران أن تنطقا، لتخبرا العالم بمكنونات قلبه، لقد علم جميع من كان في الغرفة، أن مقصدي من زيارتهم، هو تسجيل وتدوين ما عاشوه، بكل أشواقهم، وتفاصيل آلامهم وأمالهم، وأصنع منها حكايات، ترويها الألسن والأفئدة والصفحات، أينما حلّتْ، وكيفما شاءت، فأنا لست بصحفيّ، ولا أحمل كاميراالتصوير،ولن أحتفظ بصورهم فقط، في جهاز بلا روح، لكنني سأحاول أن أجعلمن عبراتهم، شكواهم، أحاديثهم، ميلادَ تاريخ جديد للإنسان، فما قبل المعركة، يختلف عمّا بعدها.

سمعتُ أحداً يناديه: عكيد.. هفال عكيد، هناك من يسأل عنك، خرج عكيد، وبعد أكثر من ساعة، عاد إليّ، كنتُ بانتظاره، في تلك الغرفة، ذات الشجون، أحتسي أفكاري، لأنّني وعدته، من دون أن أنبس بكلمة، بأنه سيكون أول من يتحدث، نظرات أعيننا قد أرسلتْ شيفرات مبهمة، مفادها؛ بأن جعبة الأيام التي يحملها عكيد على كاهله، لم تعد قادرة، على تحمّل المزيد من الضغط، كخزان ماء، فاضَ ماؤه، حدّ التعب.

وكأنه ينحت في صخر صلب، كانت تتدفق من قلبه، قبل شفتيه، عبرات متحجرة من الحسرة، سمحتُ له أن يسرد لي ما بداخله، دون أن أطلب منه أي توضيح، أو تفسير، سوى شيء واحد، أن يقولها وهو متيقن، إن سكون هذه الليلة، هو بداية الخلاص.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تعديل المشاركة Reactions:
فصل من رواية «سيرة طريق» لـ «جوان زكي سلو»

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة