جان بابير
عرضت حماقاتي على أرصفة الشوارع؛ لأخرج من حضنها الدافئ أنزف به، لا فحولة في هذا الوقت، كيف أنسى حينما أضعت قبلتي كجندي قتيل على خندق جيدك، وتزيّنت بندبات الحرمان على طول جسدي؟! ليلة البارحة كنت أسحب خلف خطواتي جثة قلبي، أبكتني عيني بصمت، بصمت وأنين موجع، فارقت فستان عرسك المعلق على روحي.
في هذه البلاد لا شيء يشبه نفسه، لا الحب هو حب وحتى القبلة تفتقر للطعم، وحدها الحروب والانقلابات تتطور أكثر، هذه البلاد عاهرة في كوابيس نومها، وتبيع جثث قتلاها أمام حانات الشرف، وأية حماقة وأنتِ ترمين بنرد الثوار على صفيح البارود، مَن يحصي حماقات الملتحين كربح وخسارة على مائدة الوطن أو يعلن قدوم الفجر، من محنة العمر، من ضربات الألم أشتاق إلى كل حماقاتي، مثلاً أن أحي قبلتي القتيلة أو أنحر جيدك بسيف شفاهي، وربما أرمي بأقدام وقتي العاري إلى السيول.
في هذه البلاد لا تستغيث، لن يصل صوتك إلى عاصمة صماء وبكماء، وحدها الطبول تقرع قرب مدافن الموت، الحائك في المدينة أخطأ بين فستان العرس وحياكة الكفن، لقد التهموا كل شيء جميل بما فيه حماقاتي الرشيقة وابتسامة تلك المرأة، استشهدت آخر قبلة تحت أنفاسها الدافئة، وظل ظلي بهوس يطارح الريح غراماً بحثاً عن وجهها الذي ضاع في زحمة القتلى، لم تكن وحدها هذه الحماقة التي يجب أن تدونني تمزيقاً، بات جسدي ثقوباً ويعاني زحمة النزيف، في النفير الثاني بعد المائة على الحد الفاصل من تخوم نسيان، غباء يتدلى من قامتي يشير إلي المارة ويقهقهون السكارى وهم يشيرون إلى الغباء، لم يعلم أحد أنني كنت أهرب من ملاحقة الذاكرة لي بتهمة النسيان، كجاسوس رديء سردت قصصي السيئة، وخبئت نفسي أضحية في قلبي، أتحسّس صورتي في سرد القصة، أنا أقصد قصة فشلي في أن أحتفظ بقبلة محنطة، أحفظها بعيداً عن التفسخ، ويح هذه البلاد وصوره التي لا تمحى.
مَن قال أنني نسيت طريقي لتعقب المكان؟ في الرشفة الأخيرة أتأمل سطح الأيام ماذا حل بنا، لم تعد صورنا تشبهنا، الموت في تناسل ذروته، حمى الرحيل بين خنادق التي تمارس لعبة القتل بين الرصاص، في هذه الفوضى نسوا أصص الزهور على الشرفة دون ماء، لم يكتب أحد قصيدة في ذلك، ولم يلتفت أحد إلى تلك الرسالة المغلقة في يدي الجندي وعيونه المفتوحة على وسع السماء، ذلك الجندي كان (أنت، هو، أنا...)، لم تصل رسالته إلى الحبيبة، كتبت في الختام:
«أنا أنتمي إليك؛ أنت وطني، وتلك البلاد العاهرة التي فرقتني عنك غريبة لا أعرفها (أشتاقك) أكثر من قارة وكل البلدان، كلما مررت بالقرب من قبري ابتسمي لي وابصقي على الأحياء الذين كانوا سبباً في فقدانك».
لا أحد سيفتش في جدول أسماء العائلة عن اسمه، سيسجل في أعداد الحمقى الغائبين، ونقشوا بأحرف واضحة على شاهدت القبر:
«هزمت الهزيمة، وأنت تسير في طريق الوطن».
هذه البلاد حبلى كاذبة بثورة القحاب والملتحين، عاش الوطن الذي يكثر فيه الخبز والأحذية.