حسين محمد علي
استطاع المصريون بأساليبهم الناعمة، وبما يملكون من روح الدعابة والنكتة من جذبنا عبر نشاطات جذّابة لاقت قبولاً كالغناء والرسم والتمثيل والخروج بنا إلى البساتين في نزهات تحرّرنا من ضيق المقاعد والواجبات المدرسية .
ومرة أخرى تجددت معاناتنا اللغوية كان علينا هذه المرة أن نفهم اللهجة المصرية ومصطلحاتها، واجتزنا هذا الاختبار بنجاح أيضاً، وفهمنا كلمات ( ياعيال .. يا واد ..الناظر .. يا بغم ..غور .. الفصل ) وغيرها من الكلمات العامية المصرية.
أذكر من أولئك المعلّمين ) محمود عبده وشوقي وطير البر ومحمد حسنين )، وللحقيقة فقد كانوا رجالاً طيبين دون قسوة ، وتركوا في نفوسنا مشاعر الحب والعرفان بغض النظر عن الدوافع السياسيّة .
وعلى كل حال فإن هذه السياسة كانت هي البكتيريا التي فسخت جسد الوحدة ، هذه الوحدة رافقها سوء الطالع والحظ العاثر، وبالنسبة لنا نحن - السوريين - فقد كانت سنواتٍ عجافاً لا سياسياً فحسب بل مناخياً أيضاً ؛ فلقد حبست السماء أمطارها ، ومرّت بنا مواسمُ من القحط والجفاف حتى المجاعة ؛ مما دفع الحكومة إلى توزيع مواد غذائية بشكل جزئي محدّد على شكل إعاشة من الرز والعدس والتمر والطحين في مشهد فيه الكثير من الامتهان والمذلّة .
ومع توسُّع مساحات السكن ازداد بناء المدارس ، ففي بداية الستينات بُنيت مدرسة اعدادية عُرفت شعبياً بالمدرسة السوداء ، فقد اُستخدمت في بنائها الحجارة السوداء ، وقد درستُ فيها . ثمّ مدرسة للبنات، وتحوّلت فيما بعد إلى مقرّ لحزب البعث ! وتقابل مبنى البلدية . وفي جبل الهجانة بُنيت مدرسة كبيرة هي مقر ثانوية البنين . أمّا قبل ذلك فلم تكن هناك ثانوية في البلد ممّا اضطررت أنا وغيري للانتقال إلى حلب لمتابعة الدراسة في المرحلة الثانوية عام 1969 م. وبالعودة إلى عقد الخمسينــات أذكر كانت المدرسة في أحواش عاديـــة ، فقد كـــانت دار
( محمد بديع ) إحداها ، كمـــا روت زوجة أخي ( زليخة( ، وكانت قد درستْ فيها . ففي إحدى السنين وبشكل مؤقّت كنت أرى الطلاب يرتـادون دار ( شيخموس ) شمال بيتنا في طريق المحطة .
أمّا الأرمن فقد كانت لهما مدرستان خاصتان؛ الأولى كانت في بداية شارع السراي مع كنيسة الأرمن ، وموقعها اليوم هو بيت ( علي الحاج أحمد ) وكانت تُسمّى( خريميان ) وهو اسم مدرسة الأرمن . أما الثانية فقد سُمّيت ) أسامـــة بن زيد( الخاصة ، وموقعهـا يشغله منزل ( إبراهيم خليل راسم ) وسط السوق ، وقد عمل شقيقي بوزان معلّماً فيها لأربع عشرة سنة مع لفيف من الشباب الكرد ، منهم ( محمد علي عثمان ونظمي نبو ) وقد انتهى التعليم فيهما مع أواخر الستينات وبداية السبعينات؛ بسبب تضاؤل الأرمن في البلدة ورحيلهم إلى منافي جديدة ، وللتاريخ فإن تمويل المدرستين كان من قبل رجل أرمني ثري عاش في أمريكا، واسمه (أواديس صرافيان)، كانت باسم ولده قبل أن تعرّب الدولة اسم المدرسة إلى ) أسامة بن زيد )، وكان التدريس فيها باللغتين العربية والأرمنية . كان يُلاحظ ضعف إقبال الأرمن على المدارس ؛ بسبب الإحساس الذي يلازم الأرمن تاريخياً ، وهو القلق من التهجير، وهذا أيضاً ينطبق على الكرد ؛ وسببه قصور الوعي الاجتماعي والظروف المعيشية الصعبة وارتباط سكّان البلد بالعلاقات الزراعية الريفية التي تحتاج إلى أيدي عاملة ومتابعة الأعمال الزراعية وعدم تشجيع الحكومات على التعليم في مناطقنا وإهمالها الممنهج .
ولا بدّ من التلميح أنّ طلائع أبناء البلد الذين انخرطوا في سلك التعليم كانوا خجولين ومحتشمين، وقد عملوا في التعليم بشهادات لا تتجاوز ) البروفيه )؛ أي الكفاءة ، وأحياناً )السرتفيكة( ، أذكر منهم )فندي فندي ، عبد الكريم عبدالله ، يحيى باقي ، بوزان محمد علي ، عمر شريف ، نظمي حسن نبو ، عثمان علي أوسي( .
وبالعودة للمرحلة الإعدادية فلم يكن بيننا في هذه المرحلة أيّ طالب أرمني أو سرياني، وكان الإقبال على المهن من أولويات الأرمن، حيث تُورث المهنة للأبناء . أمران حيويان بالنسبة للأرمن : الأوّل تعلُّم اللغة الأرمنية في مواجهة الخوف من الذوبان في المحيط. والثاني هو إنعاش ذاكرتهم بشكل دائم بما حصل لهم من مذابح وتهجير على يد الأتراك وحرصهم على إحياء المناسبات المتعلّقة بهذا الحدث الجلل في تاريخهم . ولعلّ من أكثر المناسبات إيلاماً هي المناسبة التي تصادف الخامس والعشرين من نيسان ؛ ذكرى المذبحة المريعة التي انتهت فصولها في دير الزور ، حيث ينظم الأرمن مواكب كبيرة من أرض شتاتهم إلى ذلك الموقع كل عام، حيث شهد الفرات الفصل الدموي الأخير، حين طافت على مياهه مئات الجثث من الأطفال والنسوة والشيوخ ، كان ذلك عام 1915 . وأعتقد أن التاريخ الإنساني يغطي عينيه خجلاً من هول هذه المذابح بحقّ الشعوب الصغيرة المسالمة في عالم تعربد فيه الفيلة الجامحة المنفلتة .
فسقياً لتلك الأزمنة التي عشت فصولها على هذه الأرض !
سقياً لأولئك المعلّمين الأوائل الذين وضعوا أقدامنا على طريق النور !
سقياً للمدرسة الريفية بشجرها وباحتها ونوافذها المفتوحة على حدائق الطفولة !
سقياً لليد المعروقة الفنّانة يد نجمي فندي الذي كان حارس مملكة الماء والشجر والأفياء في المدرسة ! ولمكرديج الآذن الذي كان ينهرنا إذا رمينا قصاصة ورق في الممرات !
سقياً لرفاق الطفولة الرائعة المشاغبة ! بعضهم رحلوا للأبد وظلّوا صغاراً ولم يكبروا ، وبعضهم ضاعت بهم الدروب بحثاً عن الرزق وبعضهم لم يبرح المكان!
سقياً للدروب الموصلة للمدرسة وللوادي الذي كان يفيض مجنوناً يؤخِّرنا عن المدرسة!
سقياً لتلك العصي التي ألهبت أيدينا وأرجلنا ومؤخّراتنا وللوحات الورقية التي كانت تُعلّق على صدور الكسالى بكلمة ) كسلان( ، ويقفون أمام التلاميذ مطأطئي الرؤوس، فلقد علّمتنا تلك العصي أبجديّــة اللغــة و الحياة !
سقياً لمعلّمينا من خارج المنطقة؛ الجنودِ المجهولين: محمّد أديب قطان ومعلّم مادة الزراعة إبراهيم القادم من جبال القلمون من عسال الورد لقبناه بـ ( كاجالو )، ومحمود حافظ الفلسطيني الطيب الودود، ومحمد حموية الذي سيكون أستاذي في الجامعة فيما بعد، وعمر منصور و مصطفى قوقو و فياض حاج جمنتو وآخرين ، وأعتذر من الذين غاضت أسماؤهــم بعيدةً في عتمة الذاكرة ، لهم كل التقدير والعرفان،فأنا وكلّ جيلي في دينونة أبديّــة لهــــم !