-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

بيــــوت اللـــه

 



ومثل بكاء المآذن رحت         إلى الله أجرح صحو المدى

                                                                           نزار

         في بكور الصباحات وعشيّات ليالي الجمع كان صوت المؤذن الرائع المتميز ) أمين آغا)  يتهادى عميقاً طروباً داعياً إلى الصلاة لا عبر مكبّرات الصوت، بل من فوق منارة الجامع القديم المتواضعة في علوها، يأتي الآذان متموّجاً باللكنة التركية الآسرة . ( أمين آغا ) هذا الرجل كان يختصر حكمة الحياة بسحنته الرهوية ، القادم من مملكة التقوى من سلالة إبراهيم خليل الله  ومن )عين زلخة( ، من بدء البدء  من أرض نمرود، وجه أبيض ضارب للحمرة قليلاً ولحية بيضاء ناعمة معتدلة الطول، كان طيّباً هادئاً وقوراً  يحبُّ حياة العزلة مع زوجته ؛ هي من بيت ظاظا الدمشقي الكردي، كان يقيم في الحارة الشمالية لم يُرزقا بولد، هو والجامع توْءَمان .

ومن الأسف أن هذا الصوت الآسر بمقام لحني متميز قد ضاع ولم يُسجّل،  وهذه خسارة من بين أشياء كثيرة ضاعت ولم تُسجّل، رحل برحيل النهر وأشجار الحور والصفصاف ! زوجته رحلت إلى الشام بعد وفاته، فقد رحلت ملتحقةً بعائلتها هناك  .

الجامع القديم في سوق البلدة القديم بمنارته المتواضعة

           في مقابل الكنائس الثلاث كان الجامع القديم وحيداً شُيّد والجسر عام 1932 كما أشرت سابقاً في أحد الفصول . هذا الجامع كان يضع قدميه في مياه النهر المتدفق عذوبة يتوضّأ منه المصلّون ينزلون إليه بدرجات ثلاث ، إمام الجامع القديم وخطيبه هو أحد رموز كوباني بعلمه الغزير وشخصيته القوية المهيبة؛ هو الملا مسلم صوفي ... كان رجلاً عصامياً فقيهاً واسع الاطّلاع ، مُلمّاً باللغة الفارسية إلى جانب العربية والتركية وطبعاً الكردية، كانت دروسه في الفقه وأصول العبادات وخطبة الجمعة باللغة الكردية؛ وهذا ما خلق تواصُلاً بينه وبين الناس. ومن بعده تابع ابنه حج محمود المفتي طريق والده بنفس الاندفاع والقدرة ، واستطاع أن يملأ فراغ أبيه بعلمه وذكائه ودماثة خلقه، واليوم يتابع فاروق محمود المفتي المهمة في هذا الجامع دون أن يكون في مستوى والده وجده علماً وتحصيلاً. ومن المساجد القديمة المشهودة مسجد عائلة الشيخ (صالح سيدا)، كما نعرّفهم نحن أهل البلد، وذلك في حارتهم المعروفة إلى الشرق من المخفر )حارة سيدا(. ولهذه العائلة حضورها الاجتماعي والديني في وجدان الناس، أمّا عميدهم الشيخ صالح فقد رمت به الأقدار مــــن الجزيرة إلى كوباني، وذلك عام 1946 ؛ وهو ينتمي إلى فرع من قبيلة ملا ؛ هو" الفرع الكرمي  "، وتُعرف هناك بعائلة (صوفي حسو).

  سيدا الشيخ تتلمذ في الدرباسية على يد أحد الفقهاء هو الحاج علي، وتتلمذ على يد عبيد الله  في عامودا ؛ وهو جد عبد الباسط سيدا السياسي والأكاديمي المعروف، وقد جاء بناءً على طلب المفتي ملا مسلم ؛ لحاجة المنطقة إلى رجل فقيه في الدين . والشيخ (صالح) صاحب الطريقة النقشبنديّة أقام عند ملا مسلم ، ثم سكن في غرفة عند (قدري دومان)، وبعد ذلك منحته عائلة) مجحان) قطعة أرض في تلك الحارة، فبنى فيها مسجداً؛ ليصبح مجمعاً دينياً يأتيه التلاميذ من تركيا ومن مناطق الجزيرة ، كان ضليعاً من المنطق والدين وقواعد اللغة العربية وبارعاً في علم الفرائض ، رافق (جيكرخون) الشاعر الكبير، وتعلّم منه علم العَروض .

ومن أبنائه (الملا بشير والملا حسين والملا معصوم) الذي درس في المدرسة الفرفورية في الشام ، وأيضاً (الملا محمد والملا عز الدين ونجم الدين وعبد السلام ) ، والأخيران مدرّسان من زملاء الدراسة . ومما يُؤسف له أنّ الخلافات قد نشبت بين الملا مسلم والشيخ صالح ، وانقسم الناس بين مؤيّد لهذا الطرف أو ذاك .

 وكما أعي فقد كان ) بوزان شاهين بيك ) يؤيّد الملا مسلم، بينما عائلة (حرجو شاهين بيك  (تؤيّد الشيخ صالح ، ولكن الزمن كان كفيلاً بتهدئة الخلاف المفتعل بين الرمزين الكبيرين دينياً . ومن المساجد أيضاً مسجد عائلة ( الحاج رشاد ) في  أقصى شرق سوق الحدّادين ، وكذلك مسجد عائلـــــة ) جاويش كجكان )، وبناه ( الحاج خالد ) وهو بلصق الشارع المسمّى بالتلل.

وفي غرب البلد بنى رجل متصوّف معروف هــــو( الشيخ صحن ) مسجداً له ولم يكمله ، ثمّ أُكمِل بناؤُه بعد سنوات طويلة.

ولا بدّ من الإشارة إلى مسجد مدرسة الشريعة - وهو محدث - ومساجد أخرى تلبّي حاجة التوسّع العمراني .

 وفي مُناخ الحديث عن المساجد لا بدّ من أن أشير إلى حقيقة متأصلة ؛ وهي أن مجتمع كوباني عرف تسامحاً دينياً عميقاً في عقول ووجدان الناس؛ فعلى سطح واحد هنا اجتمعت الفصول دون عقد وتزمّت ديني إلا قلّة من الناس عُرِفت بمواقفها المتزمتة العدائية للأرمن من منظور ديني، وقد استندت إلى منظومة دينية بدائية، ومن ذلك مثلاً أنهم كانوا يستخدمون كلمة ) كاور )؛ أي (كافر( عند الحديث عن الأرمن أو تحذيرنا من مشاهدة القسيس الأرمني، وعلينا أن نمسك خصلة من شعرنا ريثما يمر ويختفي، وحتى بفتاوى مرتجلة تقول بحرمانية شراء اللحم من الأرمن، ولكن الملا مسلم كان حازماً في هذا الأمر ورفض أي دعاوى من هذا النوع، وكان يستشهد بحديث نبوي يجيز تناول الأطعمة وارتداء ألبسة أهل الكتاب، وكان حريصاً على زيارة القسيس وتقديم تهنئة العيد له.

وهناك صورة تجمع المفتي والقسيس)  كيفورك ( تؤكد على هذا التسامح بيننا وبين الأرمن .

  واستطراداً ونظراً لطرافة القصة جاء نجّار أرمني شاكياً من تصرف شقيقي (مجو) ، قال الأرمني لوالدي : إنّ ( مجو ) أجبر ابنه وعدداً من أطفال الأرمن على التلفظ بشهادة أن لا إله إلا الله ؛ أي أجبرهم على ترك دينهم ، وأدخلهم في الإسلام، وقد اعتذر والدي عن تصرف ولده، وأقنعه أن التلفظ تحت الضغط بالشهادة لا قيمة له، وحين عاد ( مجو) مساءً اعترف بذلك وقال : إنّ أحد الرجال أكّد له أنه سيدخل الجنة إن استطاع إدخال أحد الأرمن في الإسلام . طبعاً مثل هذه الحوادث كانت معزولة ، ولا تشكّل ظاهرة ، إنما هي من شغب الأطفال وعبثهم .

 

أيها القارىء!

المدن مثل الكتب فيها الكثير من الكنوز

كنوز الكتب لا يعرف اللصوص الطريق إليها

في القريب والبعيد .. ففي أيّما لغة

هناك إذ يحاور الإنسانُ الإنسانَ في عصره

نقول لهما  : سلاماً

فقد اكتشفا الإنسانية  فيهما

سلام للإنسانية حتى مطلع القيامة

 

 

تعديل المشاركة Reactions:
بيــــوت اللـــه

can

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة