مبارك أباعزي
ضبطت المنبه على منوال غضبها، ونامت على آخر
قراراتها جنوناً، وقبل أن تنفتح عيون الشمس على الحقول الدامعة، فتحت عينيها،
وهمست في أذن وحيدها: (دواء.. اصح.. أسرع). هب دواء واقفاً، مسح أطراف عينيه بكم
قميصه، وحمل صرة ثيابه ومشى خلفها.
-
سأتعب... سأموت من أجله، وسترى.
هذا ما قالته صيحة تلك الليلة لزوجها. وها هي
الآن تسير واثقة من قرارها. ابن ذكي في العاشرة من عمره يستحق العناء، بسبب ماذا؟
قالت له: أنت بخيل.. أنت شحيح، ولا تفكر إلا في الآتي.
طالما أقسم هو ألا يمس عشر أجرته بسوء. ثلاثمئة
درهم في الشهر تحسباً لليوم الأسود، حين تتكالب الأمراض على أسرته، أو حين يُسرح
من عمله.. فالله وحده يعلم أيام الأمان من أيام الآلام. لكنها قالت: أنت بخيل..
أنت شحيح.. ولا تفكر إلا في الآتي.
كتم غيظه في نفسه، وكبت ألمه إلى اليوم
الموعود، يوم يسر أسرته بخبر سعيد، يوم يقول: لا تخافي يا حبيبتي.. لدي المال
الكافي للعلاج.
غير أن اليوم الموعود لم يأتِ.. ولن يأتي
أبداً. لقد حملت حقيبتها، وحمل دواء صرته، ومضيا إلى المجهول.
طوال سنوات لم تتوقف عن العمل، ولم تسمح لجهدها
بالذبول. ذبل جسدها وضمر كثيراً، ونتأت عظام وجهها، لكن العزيمة في داخلها لم
تتوقف ولو للحظة، حتى جاءها الخبر السعيد: لقد حصلت على الدبلوم.. صناعة الطائرات
مجال مربح جداً.. حصلت على خمسة عروض حتى الآن، عليك أن ترتاحي الآن.
مرت بضعة أشهر حين قال لها: (اشتقت إلى أبي..
اشتقت إليه كثيراً. لقد كان إنساناً طيباً معنا.. وكان يحبني كثيراً). أسقط في
يدها.. بعد كل هذه السنوات لم يأت على ذكره، حين اشتد عوده وتقوس ظهرها بدأ في
تذكره. لم تجبه، ولم يفاتحها في الموضوع من جديد. لقد أدرك أنها قد دفنته منذ تلك
الليلة حين رفع يده بنية صفعها، لكن شيئاً ما جمدها في الأعلى، بينما ظلت هي ترمقه
بعينين ممتلئتين بالتحدي.
حين غادر ذات صباح، عانق أمه العناق الأخير،
وكأنه يعلم أنه ماضٍ إلى حتفه الأخير. قبل جبهتها ومشى غير واثق من خطواته. وفي
تلك الليلة أخبروها أن ابنها كان في نزهة جوية مع زملائه، وسقطت..
حلّت الفجيعة.. بحثت عنه.. عن هاتفه القديم..
هاتفت من كانت تعرف من أسرته.. استطاعت العثور عليه. وها هما يقابلان بعضهما بعد
خمس وعشرين سنة من الفراق.. ينظران إلى بعضهما بعضاً، ويعانقان بعضهما بعضاً، دون
أن يدريا مغزى العناق وجدواه بعد كل هذه السنين. يكتشفان ما فعله الزمن بنضارة
بشرتيهما، ويدققان في تجاعيد وجهيهما، وتقول عيونهما الكثير، مما لم يعد يقوى
لسانهما على نطقه.. وينتظران.. ينتظران، لعله في لحظة ما.. في لحظة مباركة ما..
يدمر التابوت الخشبي بركبتيه، ويرفع التراب إلى أعلى.. ويأتي. ومازالا ينتظران.