-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

ارتجافة الخريف

 

خليل عثمان

 

«ليالٍ مضت، أشهر، سنوات... نلاحقها وهي تهرب، نبحث عن وهج الشمس وعن أنفسنا، وفي النهاية نكتشف بأننا كنا نلهث وراء السراب».

كان يوماً معتدلاً عندما كان بوزان يمارس رياضة المشي في جوار منزله وهو بغربته، في بلد زخات المطر لا تسأم عن التساقط على أشجارِها وشوارعها، وموجة من النسيم المختلط تتسلل إلى رئتيه حينما رنّ هاتفه في جيبه:

-       ألو...

-       مَن المتحدث؟

-       أنا مَعْمو... يبدو أنك نسيت أصدقائك!

-       لا، لا... كيف أنساك؟ أين أنت يا رجل؟

-       أنا أعيش في فرنسا، في ضواحي مدينة مورساليا.

أدرك بوزان بأن معمو يقصد مارسيليا، المدينة الفرنسية التي تقع على ساحل فرنسا على البحر المتوسط.

أعصابه تشهق من المفاجأة، أشواقه تستيقظ، وتتحرك إلى أكثرِ من جهة. فالاهتمامات أحياناً تحترق بكل تفاهة، كسيجارةٍ ينقصها الرغبة إليها.

ما الذي يجعل مَعْمو يتذكره بعد كل تلك السنين، يندفع عقله في لا حدود الزمن، يستعيد ذكريات طفولته وحياته الغابرة، يحس بانقباض فظيع يكاد يطبق على صدره، بدأ يعلو في مخيلته نداء غريب. مَعْمو ذلك البوهيمي بشواربه العريضة وملامحه العنيفة، وسحنته الغاضبة دون سبب، وهو يخرج صباحاً على دراجتهِ الصينية يحمل

عدة (صبّ الباطون)، يذهب إلى عمله ويأتي في المساء، والذي طالما شبّهه بوزان (بأنكيدو المتوحش)، والذي روّضته راهبة الحبّ، وليصبح مسالماً، ويبدأ بمرافقة صديقه جلجامش في تلك الرحلةِ الخيالية، من «أورك» إلى غابات الأرز الساحرة.

ثم عادت تفاصيل مشاجرة بين مَعْمو وجيرانه تغزو رأسه فجأة، عندما كانا هو وصديقه مَعْمو يقطنان بمدينة تنتمي إلى تلك المدن المحترقة تحت شعاع الشمس المتساقطة إلى أزقتها كذراعِ امرأة عارية.

عرف بوزان هذه المدينة منذ الطفولة، هناك كان بوزان ينزلق كل يوم بعد الظهيرة من بيته إلى منتصف المدينة، يحاول التعرف إلى الأشياء دون وسيط، يمارس الاحتكاك، يتسكع باحثاً عن شيء لا يدريه، إنه من الذين يتساقطون على أرض يعشقونها حتى الموت.

يومها الناس في الشارع كانوا يطاردون شواغلهم أو يتحلقون حولها، وعندما عاد بوزان إلى الحي الذي يسكنه، لاح له تجمهر المارة في مطلع الشارع غير المعبد، الذي يفصل  منزله عن منزل مَعْمو، وكأن الأرض الرحبة ضاقت بالإنسان.

زحف بخطوات لاهثة لا تخلو من ارتباك، الأرض تتأرجح تحت أ قدامه، الخيبة تقرصه من الداخل، صاح بشيء من الاستهزاء لم يستطع كبحه:

-       ماذا دهاك يا مَعْمو؟

الأيدي تلوّح وهي تعبر بتلويحها عما تعجز الحناجر عن الإفصاح ِعنه، الأجساد تهتز بشدة تطعن العواء، ثمة سكاكين، يصرخ أحدهم:

-       مَن هؤلاء الناس؟

ثم تأتي سيارة الشرطة، يخرج مَعْمو بعصاه الغليظة وهو يستقبلهم، دقات قلبه تزداد لحظتها، بدا وجهه غضوباً مكفهراً وقد امتلأ بالتجاعيد التي لم تكن ظاهرة للعيان من قبل، يجعله الغضب شخصاً جديراً بالرثاء، بدا كأنه جثة محنطة تحاول الحركة، بينما انفجرت شفتاه عن ابتسامة باهتة كالوجه الذي انبثقت منه، ومن خلال الشفتين لاحت أسنان صفراء تآكلت أطرافها فأضحت كسور مدينة قديمة.

المصائر لا تكاد تختلف بعضها عن البعض، كأنما هناك خيط دقيق يربط الناس جميعاً برباط واحد، حين أطلّ بوزان برأسه من بينهم، وجد أن الجيران اصطفوا أمام منازلهم وتجمّع قسم منهم أمام منزل مَعْمو، تسمّر في مكانه.

المارة يسرعون في الطرقات فراراً من الآخرين، والشرطةُ تقود مَعْمو إلى السجن. ذلك الشريط يمر أمام بوزان كلمح البصر، ومع كل تلك التفاصيل. رحلتهم معاً في يوم مشهود آخر لن ينساه، يستدركهُ الآن في ذهنه بقوة. يومها وعندما خرج من منزله ولمح حافلة بيضاء أمام منزل مَعْمو، وقد تكدّس بداخله بعض البشر، استفسر عن أمرها ووجهتها، اقتنع بكلمات مَعْمو، واندس داخل الحافلة لتنطلق بهم، ظلت نظراتهُ مشدودة إلى ما وراء زجاج الحافلة، كانت شمس الظهيرة قد فرشت ضوءها الساطع على طريق (رودكو)[1] وهم يتوجهون من الرقة إلى كوباني، فانكمشتِ الظلال وأمواج الغبار الناشف تلدغ بذراتها جلد كل من يسير في ذلك القيظ الملتهب، وبتلك القرى المتناثرة، لوي رأسه صوب النافذة، فانزلق نظره إلى برية مترامية الأطراف، مستوحشة كئيبة تمد ظلالها إلى حقول تم حصادها من أشهر، وحان موسم حراثتها من جديدٍ، وهي ممتدة مد النظر، حف وجهه هواء حار، فأغلق النافذةَ وتركها فاغرة تتلاطمها أنسام البر الجافة.

داخل الحافلةِ كانت زوجة مَعْمو لا تقوى على احتباس عبراتها المخنوقة، فأفلت منها أنين موجع كئيب، بتر أحاديث من في الحافلة وهي تنحب بترنيمة كردية مبكية أباها المتوفي هناك في مدينته كوباني، وهي تضرب بيدها ركبتها اليمنى، بينما يملئ الحافلة دخان السجائرِ الخانق.

كل ذلك كان يبعث في صدر بوزان ضيق شديد بينما الحر ينمل تحت جلده. تأمل بوزان تلك المرأة الجالسة على مقعد الحافلة الخلفي، وكأنه يراها لأول مرة، وهي بوجهها المنكمش، وعينيها الصغيرتين المحمرتين، وصوتها الباكي يثير في قلبه الرحمة والشفقة.

تمر الحافلة بقرية وفيها خيمة عزاء، فيطلبون من مَعْمو الاستفسار عن المتوفي، فيخرج رأسه من النافذة ويصرخ بشكل غير لائق:

-       لاو... لاو[2]، مَن المتوفي؟

هنا توطدت فكرة شريرة في نفس بوزان، انتفض في مقعده إثر صوت مَعْمو الصارخ، وتعجب من وقاحته ونهره قائلاً:

-       لقد أهنتنا يا رجل!

امتعض مَعْمو وهو يبتلع الإهانة، فأشاح بوجهه منكسراً.

بعد ساعة من الزمن، يسألهم جارهم الرقاوي وهو يقود حافلته وبصوت مرتعش ضائع الحروف:

-       هل وصلنا عين العرب؟

دخلوا المدينة، وفي خيمة العزاء وبعد قيامهم بواجبهم وتناولهم الطعام، خرج بوزان ومعه مَعْمو وآخرون إلى منزل صديق رغب باستضافتهم في ليلة طارئة دون مواعيد.

خرجوا وهم يسيرون في أزقةِ مدينةٍ لم تولد بعد، كانت رعشة المساء ورجفة الخريف يهيمن على المكان، ففي ليالي الخريف تهب أنسام عليلة مرطبة بشعاع القمر، وتطايرت ذرات الغبار في أزقة بدت غائرة في أزمنة سحيقة، بينما الظلام يتلاشى من أمامهم، إنه عبق ليلة خريفية مختلفة.

بعد قليل تهجم غيمة متأججة تشبه النسر الجارح وهو يعارك الجو بجناحيه، وقطرات

مطر كبيرة تتساقط، لم تلبث أن تسللت من سماء المدينة بخفاء. بدأت سهرتهم، وتفجّر الدم في عروق بوزان وعادت عيون الحاضرين تتأمله.

بدأ الهدوء العميق يسود الغرفة من جديد، والنور يتسلل بتثاقل وارتعاد، وليبدأ الحوار والكلمات تتناثر هنا وهناك، وليستلم بوزان بعدها دفة الحديث الذي بدا شيقاً مثيراً، وتوغل في ثناياه، وتمكن من التسلل إلى تلك الأنفس ومجاهل أرواحها، وجعلهم  ينصتون إليه بشغف.

دارت كؤوس الشاي على الحاضرين، يتململ بوزان في جلسته وعيناه على وجوه الحاضرين، لقد جمعهم أطراف الليل في تلك السهرة، وكل شيء غارق في صمت رهيب، سوى صوت بوزان الذي يصدح ويجود بتجربته في الفكر والحياة.

فجأة يقوم مَعْمو بنكزه من خاصرته، مرة، وثانية، ثم ثالثة، يتوقف بوزان عن الكلام، صوته يصيح في غضب:

-       مَعْمو، ماذا تفعل؟ لقد آلمتني، ماذا تريد؟

-       أريد الولاعة، لأشعل سيجارتي...

-       كم ولاعة أمامك! سيجارتك لا يشعلها إلا ولاعتي؟

يضطرب تنفس بوزان، وتهرب منه الكلمات، ولا يجد سبيلاً للاستمرار. أما الحضور فترسبت في أعماقهم آلام قاسية، تمازجت الأصوات عاتية، صاخبة، مختلطة، سقطت نظراتهم على وجه مَعْمو، تصاعدت في سماء الغرفة قهقهة تلتها همسات، ثم ينطق مَعْمو الجملة الأخيرة وقد اكسبها نغمة استعطاف:

-       لم أقصد إزعاجك يا بوزان!

نظرات الحاضرين ترمق مَعْمو بقسوة وكأنها سهام نارية، بينما هو يمتعض وهو يبتلع الإهانة المبطنة، وتمالكه شعور بالاختناق، وفجأة ينفجر صدره بضحكة مكتومة، ثم بدا شارداً دون أن يدري ماذا يفعل، سوى أن يحملق أمامه ثم ينظر حوله منتفضاً يرى وجوه من حوله بلا معالم.

يعود السكون إلى الحجرة مجدداً، لقد رابض بثقل المتجمع فوق كتفيه ويحس وطأته عذاباً له، ثم اجتذب من أعماق نفسه شهيقاً عميقاً زفر آهة لسعت حنجرته المتخشبة، ثم بدأت خواطره تسترجع، سخر من خيالاته التي تراوده، هز رأسه محاولاً صرف هذه الخواطر عنه، إنه العوز الإنساني الذي يسود وجه الحياة.

خارج الغرفة أخذت أنوار كوباني تتلألأ حين أوشك منتصف الليل أن يدخلها، إلا مَعْمو فإن مصابيح الأرض تعجز عن إضاءة الليالي المستديمة في حياته الموحشة.

بدا بوزان وقد استقر الحزن مكوراً ثقيلاً في قاع قلبه وصوت مَعْمو الغريب يتصاعد في رأسه، وتدور صورته مع كل الخيالات.

استفاق بوزان، ليعود إلى مشواره ورياضته اليومية والتي ألزم نفسه بها، وذلك الطريق الذي حفظه عن ظهر قلب، وقريته الجديدة في بلاد الغربة.

هنا يبدأ الغضب يخرج من قلب بوزان رويداً رويداً، بينما الهدوء يحتل زوايا عقله بسرعة، فبعد ساعة من الحديث مع مَعْمو على الجوال، يشعر بوزان بدوار وبانعدام الهواء، الزمن يشيخ ويتهدم وها هو ينحني لذاكرته، رفع عينيه إلى السماء فالشمس لم تعد حارقة، ولكن قواه تبددت تماماً، يداه لم تقدرا على الحركة، وكل شيء كان يشده للعودة إلى البيت. أكمل جملته الأخيرة مع مَعْمو قبل أن يودعه:

-       لم تقل لي ماذا تفعل الآن؟

-       لقد ارتديت (الشورت) كي أخرج للرياضة، ولكنني فقدت الهمة، ولن أكمل.



[1] طريق (رودكو)، هو طريق حلب – اللاذقية الدولي، أو ما يعرف دولياً بطريق (M4)، هو طريق دولي يصل بين مدينتي حلب واللاذقية في سوريا وصولاً إلى اليعربية على الحدود العراقية، ويسير بموازاة الحدود التركية، ويتقاطع في إدلب مع طريق حلب – حماة الدولي (M5)...

[2] (لاو – Law)، كلمة كردية، وتعني (يا هذا).

تعديل المشاركة Reactions:
 ارتجافة الخريف

Şan

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة