جان بابير / النمسا
وأتعثر في هذه الحياة التي لم تنتهِ بعد، بأقل كمية من الاستعداد أود أن أجُهز عليها وأطردني منها بغير أسف!, أحدّق في صورتي المعلّقة على الجدار، أتأمل تلك المرحلة من العمر، وأقصّ الظلال عن جسدي الذي عبرته السنين بكثير من السخط والرفض مني ،أشيح بنظري إلى النافذة المكسورة الزّجاج التي يدلف إليها الوقت ليسرقني مني . باب بيتنا العتيق يئن هو الآخر مثلي و ينوح بصمت مطبق لم يحالف فرحنا المؤجَّل الحظ ، أقتعد كرسيا خشبيا كان يوما ما تعود لحبيبتي التي غادرت المكان مع السنين كرحيل عمر وما زالت تحتل ذاكرتي ، ماتت حبيبتي منذ ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر من دهر، رحلت وغاصت في قلبي بضربة واحدة عميقا، عميقا كطعنة مدية غادرة، يعبر الشارع إلى العالَم الدافئ ,أنظر بعينين مقعرتين، يمضي المارة بين فخذيّ المدينة صامتين كأنهم يشيعونني بخطواتهم. في الأماسي النساء يطرزن شرشفا للموت ,ثمّ يمررنه أمام عينيّ لأتفحص الخيوط الفضية للدمع المخثّر ,ثم يخرجن ببكاء صامت ويطوين الحسرات كما الشرشف ، و أرتب الوسائد على حائط الحزن وأعيد ترتيب الشهقات فوق بعضها البعض، أوزع القهوة المُرّة وأدور بعلبة السجائر على ضيوف غير مرئيين. أشعلت السيجارة الحادية عشرة من العلبة الثانية ,أفكر في الحانوت الذي يقع على رأس الشارع وصاحبه الأعور , هل أخرج من البيت وأقصده لأتزوّد بسجائر إضافية ؟, آه لو كنت أملك خمس قناني من العَرق ، كنت سأرحل أنا الآخر بهدوء كنسمة خفيفة ، لابأس لأكُن بكامل وعي و لأواجه هذا العالم الشرير. بصدق لم يقدّم لي أحد التعازي ولم يشاركوني العزاء, إنه محض خيال .هل أذهب الى الحانوت أم أتجرّع كؤوس ثمالتي من رزمة رسائلها المربوطة بشريط زهري اللون ؟!، حرب كبيرة تدور في رأسي الصغير ،فكرة واحدة تسيطر عليّ, ما عاد شيء يستحق العيش، وسأشمّر عن أكمام فكرتي لأخذل الحضور وأكون عند حسن ظن المغادرة ، بزوغ الشمس رسائل ألم أخرى تحملها العصافير لي !, وأنا أجلس وحيداً يسكنني الحزن كوردة زينة في إناء وحدتي، انتصر الألم عليّ بهمسٍ وصمت ينتزعان الدمع مني كضريبة للوجع، دون أن يوقظ أحد من أحشائي تلك الوحدة الأليمة. في كل هذا الفزع لا أفتش إلا عن صورتها بين الرفوف في متناول أصابعي الثكلى، أصابعي التي في يوم قريب داعبتْ شعرها وخدّيها، أخيراً وجدت صورتها فعلقتني بدلاً منها على الجدار وخسرتني وتلّوى ظلي كدخان آخر سيجارة, غبت أنا وبقي ظلي يتمايل على الجدار وودعت خطيئتي دون أ ن أجمع ما بقي مني في الرمق الأخير.