عدنان عادل
أستحلفك بنبل التلف، وبشرف التعفن، ألّا تستقيم، أيها الميلانُ المتزنُ، الذي فيك وجدتُ إيقاعي.
رمى يومين متتاليين، في آن واحد، في كيس الزبالة، وقرر أن يكيف غرائزه للعيش بالخمسة الباقية، بعد أن تردَّدَ طويلاً في حسم تسمية اليوم الذي فيه:
«اليوم، السبت، أم الأحد ؟! لا، اليوم هو السبت، لا، لا، اليوم هو الأحد، لا السبت، لا الأحد، سبت، أحد، سبت، أحد...»، وهكذا حتى ملّ من نفسه، وملَّت الأيام من نفسها.
لطالما أزعجته مشكلة رمي النفايات في الكيس الملائم، الورق والكرتون في الكيس الأصفر، العلب المعدنية والمواد البلاستيكية في الكيس الأزرق، عزل المواد الزجاجية لرميها في الأماكن المخصصة لها، حسب لون الزجاج، أبيض أو ملون، والمتبقي من الفضلات في الكيس الأبيض، فوقع اختياره على الأخير، لئلا يعود اليومان ثانية، بعد عزلهما وفرزهما، للاستعمال اليومي:
«أعتقد بعد شرب شاي ساخن، بإمكاني أن أحل هذه المعضلة».
توجه نحو المطبخ. قدح من الشاي الساخن قد يعيد إليه اطمئنانه، وثقته في هذه الساعات المُملة من أوقات قبيل الظهر، حيث الأشياء لَم تحدد، وتسمى بعد، وكل شيء جائز وممكن ،ومعرض للفشل والعطب في الوقت نفسه. جهز غلاية الماء وانتظر. اقتادته قدماه المتيمتان بالتنقل، نحو الصالة، انقاد للأمر، رجع متخذاً وضعه الدراماتيكي أمام النافذة.
وحدها الصالة تمسحه على بساطها الخشبي، وتؤطره داخل هذه النافذة، صورة جامدة لا تجد حائطاً تزينه. ينبغي اختيار ما ترتسم عليه تقاطيع وجهه، أن ينصاع لطلب المصور الظريف: «ابتسامة صغيرة!»، ماذا لو أسدلت الستارة ،وحجبت أجفان المارة عن تحديقها، ليظل وحده غير راضٍ يكشف عن أسنانه رغما ًعنه ؟! وميض ينسل من صورته المنعكسة على الزجاج ،لينير الصالة بأوهامه، كائنات تتقافز على رفّ قديم عُلّق على الحائط بمسمارين أحدبين، رجل ينتظر، ليموت مرتين كل يوم، قبل أن يعوم في بركته المنتظرة، وآخر يحدق بامتعاض إلى شمس حارقة في سماء زرقاء، لمنظر ساحل ألصق على الحائط بإهمال متعمد، على مرمى الأفق بحر تخشى أمواجه العظيمة قطرات العرق المتلألئة على جبينه المالح، وهديره يتخاذل قبالة وقفته الصارمة. أطياف متراكمة فوق بعضها بعض تتزاحم على الأريكة الوحيدة في الصالة، بينما تظل صورته على الزجاج تكشف عن أسنانه رغماً عنه.
كان يزمجر على هيئته المنعكسة ،ويرمقني، بين حين وآخر، بنظرة منكسرة ملؤها الريبة. لَم أتجاسر على التقرب منه، امتلكتني الخشية من أن يسحقني بقدمه، فهمتُ محتوى ما كان يريد إيصاله لي، فتقبلتُ الأمر، ورضيتُ نزولاً لإرادته، بأن أكون حاضراً أراقب المشهد عن كثب ،حتى وإن تمثلتُ في هيئة كائن هزلي يزحف في أركان الصالة متحسساً بمجساته القاذورات، ليقتات مرغماً على فضلاته المتروكة تحت المكتبة، منذ أسابيع.
كان ينظر إلى الشارع ،والضباب المتهادي أمامه. ندف الثلج أعتمت ذاكرته، مع كل ندفة تذوب حكاية، عليه أن يفضي ما في دواخله، ويخصص لكل منها فصلاً، أو صفحة من حياته، هكذا يصير ما عاشه خلواً من أي شيء: دفتي كتاب دون صفحات.
يطيل الوقوف جنب النافذة، يظل يجول بنظره لساعات، دون أن يصاب بالملل، وأغلب الأحيان، يمضي طوال النهار مشتولاً هناك يضبب الزجاج بأنفاسه، ويرسم بسبابته أبعاداً ودوائر، ما تنفك أن تتقطر وتذوب، حتى يعيد الكرة من جديد. ابتلى بهذه العادة، بعد أن أيقن منذ أمد طويل، بأنه فقد القدرة تماماً على خلع حذائه. هذا العجز المربك أمام حذاء استعمر قدميه، وَلَّد لديه هاجساً ينخر رأسه وقدميه، هاجس ترك هذا المكان أيضاً مازال يرهقه، أن يتبع الدرب الذي يختاره حذاؤه، وكالعادة يبحر من خلال النافذة دون دفّة، أو شراع، يترك رأسه في الدقل، وقد عوَّد جسده أن ينقلب ببساطة إلى سارية ،ويبحث عن الطيور، لكن عبثاً.
«يا لهذا الثلج اللعين!».
وينهش أرضية الصالة جيئة وذهاباً، يراقب مقدمة قدميه. في الآونة الأخيرة لاحظ بروز الأصابع من جلد الحذاء بشكل يجلب الانتباه، الإصبع الكبير بدا جافاً ومتشققاً يطل بعنقه خارجاً، تكسوه طبقة خفيفة من اللون البني المائل إلى الصفرة، الأصابع الأخرى مالت إلى البروز أيضاً، يلتصق بعضها ببعض، إثر إفرازات مخاطية لزجة خليط إفرازات جلده ،وعفونة الحذاء. وكلما أمعن النظر في نفسه ألقى التاريخ والجغرافيا أمامه كسوتهما دون حياء ،وأخذا يمارسان الحب بسادية مقرفة.
فاحت من ذاكرة قدميه صور تختلط بلزوجة، وتعفن الموقف، ورائحة غير مستحبة تجبره أن يتصور مشاهد مقززة مثبطة للهمة: رائحة إسكافي مُدَبّغ، يرتدي صدرية بيضاء، وسماعة طبية تتدلى على عنقه، يجري عملية بتر عضو تالف لكائن هُزم حديثاً.
عاودته وخزات الحَكَّة من جديد في باطن قدمه، كان متهيئاً لمثل هكذا طارئ. تناول السكين ذا علامة الضبع المحفور على نصله من فوق المكتبة، وأخذ يقشط باطن قدميه مزيلاً القشور والعوالق المتعفنة من بين أصابعه، ومن على كعب حذائه الذي أنبت مجدداً جذوراً متفاوتة الطول وخشنة: «مع أنني قمت بتقليمها قبل يومين»، يتأفف، ويستمر بهرش حراشيف جلد ساقه الجاف المتكلس.
بدا ظفره منتفخاً، وتحدب أصابعه يضفي إلى قدميه مظهراً بشعاً، سال سائل من قاعدة الظفر، أصبحت الرائحة لا تحتمل، فتح درفة النافذة، نفخ من فمه ضباباً محملاً بأمنيات تتخذ شكل فراشات بأجنحة سوداء مزينة بدائرتين حمراوين محاطتين بهالة صفراء، دون رموش، توحي للناظر، وكأن هذه الأمنيات محروسة بأعين الصقر. إنها فراشاته التي تتمظهر بالشر.
الضباب يلف السيارات التي تمر بين حين وآخر، وتلبس أشجار البندق على طرفي الشارع زياً ملائكياً بأغصانها المتدلية التي تلامس بخفة رؤوس المارة القلائل، وهي تقطع الشارع تحت سماء رصاصية شاحبة تمهد الدرب لقدوم الموت بهيبته الرهيبة.
سيارة وقفت قرب صندوق البريد المتواجد على الرصيف، رجل يترجل حافياً، ليودع ظرفاً، لَم يحسد في حياته حدثاً، أو كائناً مثله. تستفزه الحَكَّة، وتقطع عليه السبل لمواصلة انطباعاته، يضغط بقوة على أرضية الصالة: متى يستطيع خلع هذا الحذاء، ويتمطى تحت فراش دافئ، ويريح رأسه على الوسادة المفقودة التي تعوّد عليها، حيث لَم يلتصق الحذاء بجلد قدميه، ويكون جزءاً من لحمه تسري فيه دماؤه الحارة، ولَم تبرز أصابعه المعوجة من مقدمته، كأنها دمى بملابس جلدية وسخة، كما الآن؟! لكن هذه اللعنة مريحة لديه، تهدئ توتره، وتزيل الارتباك عن بقية أعضائه السليمة: «قد لا يكون لدي الرغبة الحقيقية بالانفصال عنها». كان يردد هذا، ويرسم على الزجاج المضبب سهاماً تشير إلى جميع الاتجاهات، وتنطلق من مركز واحد.
كست ملامحه فرحة، ولوح للرجل محيياً: «قد يكون لهذا الرجل طبع مغاير لطبعي، ربما لا يستطيع انتعال الأحذية لراحة في كيانه، أو سكينة في قلبه، أو دفء فراشه، قد يعود السبب إلى وسادته، نعم وسادته».
لكن الأمر اختلف ،حين رأى سيدة في السبعينيات من عمرها تنزه كلبها، السيدة حافية تسير على الثلج باطمئنان غير مفتعل. أطلَّ بجسده قليلاً صوب الخارج، كي تتوضح له الصورة أكثر، لفه الضباب، وأضاف غشاوة على محياه. ترطبت الأمنيات وأجنحة الفراشات التي كانت تسيل بغزارة من فمه، وتبعثرت ألوان الفراشات مع الرذاذ المتطاير من نواح الأرملة في الطابق الثالث من البناية، وأخذت تزحف على الثلج، تاركة آثارها، على بساط كفَّ أن يكون أبيض يلج بألوان الأجنحة، ورحيق الأمنيات، تسحقها أقدام حافية لسيدة بكامل وعيها. فرك عينيه قليلاً، وهو متأكد من سلامتهما، لكن السيدة ظلت حافية تسير بخطاها الثابتة غير عابئة بهيجان العالَم في رأسه المنخور في الدقل ،ولا بقدميه اللتين ترفضان أن تكونا مرساة تثبت هيكله الريشي، وسط هذا الكم الهائل من اللطمات. كانت السيدة تشدّ وتحثّ على السير كلبها الذي ظل يزمجر على فراشات سكرى برحيق الأمنيات، ويمدّ أنفه، كمن يتلهف لاستنشاق كائنات عشقها، منذ زمن مضى.