-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

رأفة بي



سهير المصطفى

 

أنتِ لي

عاد غيابك ليفرض نفسه على أيامي، لكني كنت أعيش بسكينة حروفك المختصرة التي وصلتني ليلة رأس السنة، والتي من فرط كبريائي لم أستطع أن أبوح لك بكل ما في داخلي ولو بكلمة واحدة، كم وددت أن أحمل نفسي على كتفي وآتيك بكلّي، بحطامي بأشلائي بجروحي النازفة، أشكو إليك هزيمتي، فقد خرجت من المعركة خاسرة.

تلك المعركة التي أدخلتني فيها وخضتها لوحدي، تدمرت كل أسلحتي وبتُّ عزلاء أواجه قدري، كان حتماً علي أن أقف مكتوفة الأيدي لا أن أواجه، لأني كنت أعلم مسبقاً بخسارتي.

لا أُخفي عنك بأني فكرت يوماً في نسيانك، إن كان هذا قرارك، وأردت الابتعاد حتى دون وداع، ولأجل أن يكف قلبي عن العويل، أردت أن أنتزعك منه، مثلما انتزع المسعفين ذات مرة شظية اخترقت خاصرتي أثناء وجودي في حي جوبر الدمشقي، حين تم نقلي إلى مشفىً ميداني يفتقر للأدوية والمواد المخدرة، وتم انتزاع الشظية وأنا بكامل صحوي، أذكر بأن أحداً أعطاني وشاحاً كي أعض عليه لأجل أن أقاوم الألم لكني رفضت، وتمت العملية ولم أُصدر صوتاً إلا في أعماقي التي كانت تصرخ يا الله، لكن ألم انتزاعك من قلبي يفوق ذاك الألم بأضعاف مضاعفة، شيئاً شبيها بانتزاع الروح يا إبراهيم.

كنت وكمن يسير على محيط دائرة مركزها أنت، لأعود لذات النقطة التي انطلقتُ منها وأنت مكانك، لا تتغير الأبعاد بيني وبينك ولا المسافات، كان الهدف نسيانك، لكني نسيت نفسي وما نسيتك.

على العكس كنت تتربص بذاكرتي أول استفاقة لي، في أول حلم أراه، حتى وإن تجرعت حبوب المنوم لأدخل في نوم عميق لأغيب فيه عن واقعي، فسأراك أنت.

أنا لم أعد نفسي، بتُّ أنتَ في كل حالاتي.

وحينما جاءتني حروفك، لم أعلم إن كنت في الصحو أم في الحلم، فلطالما تحدثنا كثيراً في الأحلام.

كم وددت أن آتيك بكلي، علّك تلثم جراحي فتطيب.

وأقول لك اشتقت إليك يا وجعي...

 كنت قد طلبت كثيراً من الله أن يكون عامي الجديد معك، وأن لا تمر أيامي بعد الآن بدونك، ورُبما اعتدت على القليل منك، بعدما أغدقت عليّ بفيض حبك، حتى باتت بضع كلمات منك يُعدن إلى قلبي النبض كما لو كانت من أثمن أنواع الأدوية، وافتقدت لصوتك، بتُّ أتمنى لو أني خبأت بعضاً من أنفاسك وصوتك في قارورة، أرش على مسامعي منها كما أرش العطر، أو أن أصنع منها كبسولات أتناولها كلما أرهقني الحنين، تذكرت أحلام مستغانمي حينما قالت:

«أيُّ علم هذا الذي لم يستطع حتى الآن أن يضع أصوات من نحب في أقراص أو في زجاجة دواء، نتناولها سراً عندما نصاب بوعكة عاطفية».

لنتناولها سراً؟ لماذا يصبح الحب مشتبهاً به، وعلى المدمنين حباً، أن يمارسوا طقوسه سراً؟

وهل الاعتراف به جريمة نعاقب عليها بالفراق، وهل لأني كنت لا أكتم عنك أي شعور عاقبتني بغيابك؟

وهل بات البوح بالحب والاشتياق لمن نحب، جرماً كذاك الذي نطقناه فاشتعلت الحرب في البلاد ونُفينا منها؟

لذلك بات علينا أن نكتم رغبتنا ومشاعرنا كي لا ندمر الحب فوق رؤوسنا، ولا ينقلب علينا ليسقطنا من على كرسي السعادة، ويسحب بساط المودة من تحتنا.

تسللت رسالة جديدة منك إلى هاتفي مساءً، لتقول حروفها:

«اشتقتك، انتبهي لنفسك، لا تنسي أنتِ لي... إلى اللقاء».

وبقيت معلقة بين إلى واللقاء، وبتُّ أحلم برؤيتك ونسيت ألم الأيام التي مضت بدونك.

متى يكون لقاؤنا وقد أضناني هجرك؟ متى يكون، لأشتكي نار بُعدك؟ أريد أن أسمع منك أسباباً لعدم ردك على اتصالاتي وغيابك عني دون أي خبر، هل تُخفي شيئاً عني؟ ليس منطقياً أن تغيب كل هذه الأشهر، فقط لأننا اختلفنا قليلاً.

كنت أقول لنفسي: «أيّعقل أن يتسلل الملل إلى نفسه؟ هل اقتربت منه كثيراً حتى سئمني؟ وكأني بالغت في الاقتراب حتى احترقت جناحاي، أم أنه أراد للحب أن يتقد بالبعد، ليعيد إليه زهوته و جمال البدايات».

لكني تيقنت بأنك ما زلت تكنّ لي الكثير من المشاعر بقولك: «أنتِ لي».

لكن ما أرهقني سؤال ظل يحوم في ذاكرتي، هل المحب يبتعد أو يغيب؟ وهل يضع روحه تحت رحمة الشوق ليحترق بلهيبه وناره الكاوية؟

المحب لا يجعل للأشواق باباً مفتوحاً، وهو الذي باستطاعته أن يُغلقه بالوصال.

أراغبٌ أنت عن حبي يا إبراهيم؟

أرهقتني كلّ هذه الأسئلة، وعمت الفوضى في دواخلي وما كنت أريد إلاك لتعيد ترتيب فوضى حواسي وبعثرة مشاعري وتعيد لي هدوئي واتزاني.

جاءني صوتك على حين لهفة، وعلى حين شوق أجبتك، في توقيت الحب صباحاً:

– كيف حالك يا شقية؟

– الآن أصبحت بخير.

– مشتاق لكِ جداً.

– وأنا أرهقني الشوق وغيابك، لماذا فعلت بي هكذا؟

– اسمعيني يا حبيبتي، كانت نفسيتي متعبة جداً، وكنت بحاجة لأن أبتعد ليخف ضغطك علي.

 – ما الذي تقوله؟ وأنت لم تسأل حتى إن كانت نفسيتي متعبة أم لا؟ وماذا يمكن أن يفعله غيابك بي؟

– أنتِ لم تغيبي عني يوماً، كنت أتابع كل مقالاتك على النسخة الإلكترونية لمجلتكم.

– وماذا استنتجت؟

– كنت أطمئن عنك، وعرفت مدى حبك لي، لا تعتقدي بأن أسمح لنفسي أن أضيعك أو أفقدك.

– حسناً، أريد أن أراك، هل نلتقي في المقهى؟

– سارة، أريد أن أقول لكِ شيئاً.

– ما الأمر؟ قل.

– أنا لست في القاهرة، لقد سافرت منذ ثلاثة أشهر.

نهضت من سريري وانتفض قلبي وانفجرت الدموع من عينيّ، ولم أستطع أن أتحدث بشيء.

وحينما باغتك صمتي أكملت:

– أنا في باريس الآن، لقد رشحّت الشركة اسمي لأكون مندوبها هنا لِما رأوه من اجتهادي واتقاني للعمل.

لم أستطع أن أنطق بل بتُّ أشهق ولا يصلك مني إلا صوت أنفاسي المتقطعة.

– سارة لا تبكِ، عملي هنا ضروري لأجل مستقبلنا وسعادتنا أنا وأنتِ، صدقيني.

وكأنك كنت تعلم بأنك إن أخبرتني بسفرك، سأمنعك، وأنت الذي التمس جنوني وتعلقي بك، فكان غيابك مفاجئاً وكأنك أردت أن تعالج ألم الذراع المودِّعة بالبتر، فبترت يدي الممدودة إليك وسافرت، كي لا تبقى معلقةً بك، ويضنيك وداعها.

أردت أن تفاجئني بالغياب لأعتاد بُعدك، وصببت الثلج فوق مشاعري المشتعلة، لتطفئ نار تعلقي بك، ويكون غيابك برداً وسلاماً على أيامي فيما بعد.

وأنا كنت أعتقد بأن غيابك بسبب غضبك مني، رُبما استغليت هذا الغضب لتسافر دون وداعي، وتركتني أنا أتخبط في الفراغ، بين متاهات الأسئلة لا أجد أي نجاة.

أيعقل أنك تحمل قلبًا قاسيًا بين ضلوعك؟ أم أنك تستطيع السيطرة على مشاعرك خلافي؟

أنا أملك قلبًا لا يقوى على أي ألم، وأنت أعلم به لأني أسكنتك فيه، ومع هذا لم ترأف بهشاشته.

 


 

الاسمبريد إلكترونيرسالة