-->
U3F1ZWV6ZTEzNzUzMDQwMTQxX0FjdGl2YXRpb24xNTU4MDI5NzIxNDY=
recent
جديدنا

تأثير كابا

 

عبد الله الزيود

 

ثمّة مركبة تصطفّ في الموقف المحاذي لموقف سيّارتي كلّ يوم، «مازدا» 3 طراز 2009، طلاؤها فضّيّ لامع ولها إطارات ممسوحة بحاجة إلى تغيير، لم يحدث أن التقيت صاحبها من قبل، انتبهت إلى ذلك بعد عام على اصطفاف سيّارتينا جنبًا إلى جنب حين نزلت من منزلي لأحضر لعبة نسيها طفلي في المقعد الخلفيّ لسيّارتي. وقفت هناك لبضع ثوان، ضيّقت عيني، ثمّ سألت نفسي: مَنْ صاحب هذه السيّارة؟ تكون نائمة في مرآبها حين أذهب إلى العمل، وأعود فأجدها غائبة عن المكان. لا أصادف صاحبها في المواقف، ولا في المصعد رغم أنّنا مجبرين على استخدام مصعد واحد في مبنىً من سبعة طوابق فقط. حتّى في عطلة نهاية الأسبوع، ورغم أنّني لا أتبع روتينًا واحدًا يمنع لقاءنا، إلّا أنّني لم ألتق به صدفة في الكراج.

نفضت رأسي محاولًا التركيز في السبب الّذي أنزلني من البيت، ثمّ سحبت لعبة ابني من المقعد الخلفيّ لسيّارتي وأغلقت الباب.

فكرة تعشعش في رأسك، مثل أغنية تعلق في لسانك، لا تعجبك، لا تحبّ سماعها ولا غناءها، ولكنّ عقلك قرّر في اجتماع خاصّ لم تحضره أنت أن تبقى هذه الأغنية عالقة مثل خلفيّة موسيقيّة غير مناسبة لحياتك.

جالس في بيتي أقلّب القنوات في شاشة التلفاز: ماذا لو نزلت الآن إلى المرآب. هذا وقت غير متوقّع قد يسمح بأن ألتقيه. فعلت ذلك بشكل متكرّر خلال الأسبوع الأخير ما دفع زوجتي الّتي لم يسبق لها أن سألتني عن تحرّكاتي وفي وجهها نظرة ريبة على السؤال: أين تذهب وتعود في الليل؟ ما أثار ريبتها أنّ الوقت بين الخروج والعودة لم يكن يسمح لي بالقيام بأيّ شيء مريب. المريب كان النزول لا مدّته أو في ما أقضيه.

تمرّ الأيّام، وصرت أصل من أيّ مشوار لأوقف سيّارتي ثمّ أظلّ جالسًا فيها لأزيد من فرص اللقاء. صار الأمر يأخذ منحىً مرضيًّا بدأت أشعر به. ولأنّني رجل عائلة في نهاية الأمر قرّرت أن أنهي هذه المهزلة. ولكي أتمكّن من فعل ذلك كذبت على زوجتي. قلت لها ليلة أربعاء: سأخرج مع أصدقائي غدًا، سنوقد نارًا في الصحراء، سنقيم حفلة شواء، سنلعب الورق، وسنتسامر حتّى آخر الليل فلا تنتظريني. هزّتْ رأسها موافقة رغم معرفتها بأن لا أصدقاء لي، وإن حصل واجتمعت مع أحدهم فإنّني لا أحبّ الشواء، ولا أسهر، ناهيك عن أنّني لا ألعب الورق. لكنّها هزّت رأسها آملة أن ينتهي أيًا كان ما بدأ يؤثّر على حياتها وحياة العائلة.

ابتعت مكسّرات وعصائر وبسكويت وعلبتي سجائر وجلست في المرآب أنتظر ظهور صاحب المركبة. هذه هي الطريقة الوحيدة لألتقي به وأنهي هذه الفكرة الّتي نسجتْ نفسها في رأسي مثل يد ضخمة تكاد تطبق على فرخ عصفور.

بقيت حتّى الفجر. ولم تظهر السيّارة ولا صاحبها. وفي لحظة سهو غفوت في مقعد السائق عشرين دقيقة، وحين فتحت عيني كانت السيّارة واقفة إلى جانب سيّارتي. نزلت من سيّارتي كالمجنون ووضعت يدي على غطائها. المحرّك ساخن. قلّبت بصري بين السيّارة وباب المبنى، هذا يعني أنّها وقفت للتوّ في مرآبها. اللعنة.

عدت إلى البيت بوجه عابس لم تستطع زوجتي تفسيرًا له. ولم تسأل فنمت على نكد لم يعد يطاق، وحين استيقظت بعد الظهر وجدت زوجتي وقد أعدّتْ طعام الغداء فتحجّجت بدخول الحمام لأبحث عبر الإنترنت عن كاميرا أستخدمها في رصد صاحب المركبة وهو يدخلها أو يخرج منها. سأثبّتها في سيّارتي موجّهًا عدستها ناحية السيّارة الواقفة إلى جانبي.

مرّت أربعة عشر يومًا، لم يظهر أحد، واجتاحني توتّر متصاعد لم يسبق لي أن خَبرتُ مثله، ما اضطرّ زوجتي للمّ أغراضها والذهاب إلى بيت أهلها. أرادتْ أن أقول: لا تذهبي. ولكنّني - أشعر بالخجل من قول ذلك - تنبّأتُ بفرص مضاعفة للتحرّك بحرّيّة تمكّنني من الوصول إلى صاحب المركبة.

ذهبت زوجتي، والمشكلة الآن تلخّصت بأنْ كَسَت السيّارة طبقة من الغبار تكوّنت على مدار الأسبوعين الماضيين. سألت عامل التنظيف - عامل التنظيف هذا لديه شفّة أرنبيّة لم يحظ بمعالجة طبّيّة جيّدة لها على ما يبدو، يظلّ يمرّر لسانه في شقّ واضح في شفته العليا: هل توقّف صاحب السيّارة عن الدفع لك؟ قال لي إنّه لم يلتق به حقيقة، ولكنّه يترك دفعة كلّ شهر عند موظّف الأمن، "بالمناسبة" أضاف عامل التنظيف، "لم يدفع لهذا الشهر فتوقّفتْ الخدمة". استمرّ في الكلام ولكنّني سرحتُ في الشقّ في شقته العليا، ودّعته متوجّهًا إلى موظّف الأمن استفسر منه. موظف الأمن هذا من الهند، طويل وله كتفان ضامران مناسبان لمراهق وذراعان مثل سيقان دالية ناشفة، فقال لي إنّه لم يتلقّ أيّة مبالغ من أحد. وحدست أنّه لم يعبّر عن مقصده بطريقة واضحة، أبقيت على عيني في عينيه فارتبك محاولًا تفسير مقصده، قال ما معناه إنّه يستلم كوبون تنظيف عبر الخدمة الإلكترونيّة ويسلّمه لموظّف التنظيف، وهذه خدمة معروفة هنا، إذ يدفع النزلاء نقدًا أو عن طريق شراء كوبونات من موقع الشركة الرئيسيّ في ’البيزنيس تاور‘. شكرته. ثمّ نظرت إلى أصابع قدميه الّتي بدت مثل جذور ناتئة تنمو بطريقة غير سويّة خارج صبّة البلاط ثمّ عدت إلى البيت.

في اليوم التالي، فوجئت بالسيّارة وقد بدتْ لامعة نظيفة. ركضت حيث الكاميرا الّتي وضعتها في سيّارتي. تفحّصت آخر ثماني ساعات من مدّة التسجيل، مدّة غيابي، لا شيء عدا عامل التنظيف يقوم بعمله المعتاد فأسقط في يدي.

في الليل، أدخّن في الشرفة كالمعتاد. بدا لي الزمن كما لو أنّه سحّاب لم يركّب بطريقة صحيحة. ثمّة خلل، ورغم ذلك الخلل إلّا أنّك تظلّ قادرًا على إغلاقه، زمانان، الزمن المُدْرَك وقد رُكِّبَ بشكل غير دقيق فوق آلة الزمن الكونيّ ما أحدث مشكلة في التزامن، وحيّد بهذه الطريقة أيّ احتمال لالتقاء طبيعيّ.

أراحتني الفكرة، وجدت تفسيرًا، ولعلّ إيجاد التفاسير للمعضلات مريح، خفّ التوتّر، وانزاحت هموم، وبتّ أكثر توازنًا وتفهّمًا لما حدث معي، راضيت زوجتي وحاولت أن أعيدها إلى البيت إلّا أنّها اشترطت عليّ أن أتوقّف عن ألعابي.

سألتها بصوت هادئ لا ينوي إثارة مشاكل أخرى: أيّة ألعاب؟ إلّا أنّها تنهّدت مثل جبل متعب: أنت تحرجني. قالت. واتّسعت في محجر عينيها حدقتان ترتجفان.

لم أرغب في سؤالها عن سبب إحراجي لها إذ لم ترمش بينما تحدجني بنظرة مستمرّة فيها خليط من الغضب والشفقة، ثمّ غابت في غرفة الألعاب وعادت إليّ بكلب من صوف تضغط على صدره فيغنّي: أعد هذا إلى السيّارة في المرآب، واترك مفتاح الاحتياط عند موظّف الأمن.

هززتُ رأسي موافقًا على طلبها، ومددت يدي لآخذ اللعبة من يدها، إلّا أنّها، ورغم أنّني مددتها بالشكل الصحيح، وفي المكان الصحيح، عبرت ساقطة على الأرض من خلال يدي.

تعديل المشاركة Reactions:
تأثير كابا

Kaya Salem

تعليقات
    ليست هناك تعليقات
    إرسال تعليق
      الاسمبريد إلكترونيرسالة