في زمن أصبحت فيه
منصات التعبير مفتوحة للجميع، لم يعد من السهل التمييز بين من يتكلم عن دراية، ومن
يردّد الكلام تزيينًا لصورته في مرآة الجمهور. ومن هنا، تبرز ضرورة مراجعة مفهوم
"الكلام"، لا بوصفه ظاهرة لغوية فقط، بل باعتباره فعلًا معرفيًا يتطلب وعيًا
والتزامًا.
لقد بات مألوفًا أن
نرى من يقتطف آية قرآنية، أو يورد حديثًا نبويًا، أو يستشهد ببيت من الشعر، ليبني
عليه رأيًا أو يُطلق حكمًا، دون أن يُلمّ بأصول الفهم، أو يمتلك أدوات التأويل، أو
حتى يُدرك السياق الذي خرج منه النص. وهو سلوك يتجاوز حدود الاجتهاد الفردي، ليصل
أحيانًا إلى حالة من الاستعراض الثقافي المموّه بلبوس "العلم".
ما يُقلق في هذا
السلوك، أنه لا ينبع في الغالب من رغبة في الفهم أو إثراء النقاش، بل من نزعة
نفسية تستمد حضورها من التكرار، لا من العمق. فالمتكلم بما لا يفقه لا يسعى إلى
بناء المعنى، بل إلى إثبات الذات؛ لا إلى الإقناع، بل إلى الظهور. والمفارقة هنا
أن الاستشهاد بالنصوص، بدل أن يكون مدخلًا للمعرفة، يتحول إلى غطاء يحجب الفراغ
الفكري.
وفي هذا السياق، لا بد
من الإشارة إلى أن مجرد حفظ النصوص لا يمنح صاحبه صفة "المثقف"، تمامًا
كما أن اقتناء الكتب لا يصنع قارئًا. فالثقافة، في جوهرها، ليست تكديسًا
للمعلومات، بل قدرة على التحليل، وملكة في الربط، وحس نقدي يُميز بين الدال
والمدلول، وبين الظاهر والبنية العميقة للنص.
إن أخطر ما في الحديث
بغير علم، أنه يُفرغ الكلمة من قيمتها، ويُشوّه النصوص التي يُفترض بها أن تُفهم
لا أن تُستعرض. فعندما تتحول الشريعة إلى أداة للمزايدة، والشعر إلى حيلة بلاغية،
والحديث النبوي إلى لافتة يُعلّقها من يشاء كيفما شاء، فإننا نكون قد فقدنا صلتنا
بروح النص، واستبدلنا الفهم بالزيف، والنية الطيبة بالغرور المعرفي.
الواجب، إذن، أن نعيد الاعتبار
لمفهوم "القول المسؤول"، وأن نميّز بين من يتكلم لأنه يعلم، ومن يتكلم
لأنه فقط يحفظ. فالكلمة أمانة، لا مجال فيها للاجتهاد المرتجل. ومن لا يملك أدوات
الفهم، فالأجدر به أن يُنصت، لا أن يتصدر؛ أن يتعلم، لا أن يُعلّم.
لقد حضرت حوارات
متعددة، واطّلعت على نقاشات كثيرة، ورأيت بأمّ عيني كيف أن بعض المتكلمين، حين
يُسألون عن تأصيل ما يقولون، يعجزون عن تقديم رؤية واضحة أو ربط علمي ينهض
بكلامهم. ويظهر حينها أن الكلام لم يكن نتاج فكر، بل استعراضًا خاليًا من العمق.
إننا، اليوم، بحاجة
إلى ثقافة تتواضع أمام المعنى، وتوقّر الكلمة، وتُفرّق بين الحق في التعبير،
والواجب في الفهم. فلا يليق أن نمنح المنابر لكل من حفظ، دون أن نسأله: ماذا فهمت؟
وكيف وصلت؟ وما حجتك فيما تقول؟
في الختام، إن الكلام
مسؤولية فكرية وأخلاقية، لا يُتقنه من أراد التصدر، بل من تمرّس في الصمت، وتأمل
كثيرًا قبل أن ينطق. فلا تتكلم بما لا تفقه، ودع للكلمة وزنها، وللعلم مكانته،
وللنص حرمته.