منذ فجر التاريخ لم،
تكن السلطة مجرد عرش أو سيف وإنما «حكاية» تُروى. كل ملك يجلس على كرسيه، يصنع
لنفسه أسطورة، وكل إمبراطورية لم تحكم بالسيوف وحدها، إنما بالقصص التي تحاك حول
قدسيتها. «الحكاية» هي الهواء الذي تتنفسه السلطة والسلطة، هي الظل الذي يطارد كل حكاية.
من المعابد القديمة حتى كوابيس القرن العشرين، تلبس الألوهة ثوب الجسد، وتختبئ
النزوة خلف أقنعة الخلود. كأن العالم مسرح كبير لا يبنى بالقرارات فحسب، وإنما
بالأوهام التي تقال وتعاد هنا في «رواية نزوة الاحتمالات والظلال»، للروائي مازن عرفة. تنكشف هذه العلاقة السرية بين العرش و«الحكاية»، بين القداسة والأسطورة بين
الشبق والسلطة، لنجد أنفسنا أمام نص لا يكتفي برواية قصة، وإنما يفضح اللعبة التي
تجعل من السلطة «حكاية» ومن «الحكاية» سلطة.
يقدم الروائي السوري،
مازن عرفة، في روايته «نزوة الاحتمالات والظلال» نصاً فريداً من نوعه؛ يقف على
الحدود بين السرد الأسطوري والتأمل الفلسفي، بين السياسي والميتافيزيقي، وبين
الحلم والكوابيس. النص يتفجر في خمسة أقسام وخاتمة، لكن هذه البنية ليست خطاً
مستقيماً، وإنما أشبه بمتاهة من احتمالات وظلال، تتوالد من بعضها بعضاً. ما يميز
الرواية ليس فقط جرأتها في طرح موضوعات السلطة والجسد، بل وأيضاً قدرتها على تشييد
عالم ميثولوجي، يُساءل القارئ عن معنى «الحكاية» نفسها.
منذ الصفحة الأولى،
يدخلنا الكاتب إلى مشهد تتداخل فيه السياسة بالدين، فيما الجنرال – الإله يجلس على
عرش، محاط بكاهنات وصيفات، والجماهير ترفع شعارات التقديس والتمجيد. هذه السلطة لا
تُقدم بوصفها مجرد حكم دنيوي، بل كطقس كهنوتي، حيث يتحول القائد إلى أيقونة، إلى
كائن فوق بشري، تتماهى صورته مع صورة الإله، لكن النص لا يترك هذه الصورة مطلقة، بل
يكشف هشاشتها الداخلية؛ فالراوي– الأنا. على الرغم من كل القداسة التي تُمنح له،
يشعر بالضجر، بالريبة من مستشاريه، وبالفراغ الذي ينخره، لتكون القداسة جوهراً وقناعاً
هشاً. وعندما يتسلل الشك إلى قلبه، يتضح أن كل تلك الطقوس ليست سوى مسرحية، تحتاج
دائماً إلى تكرار؛ كي لا ينهار المشهد.
بهذا المعنى يُعري عرفة
البنية العميقة للسلطة، والحاجة لتألية نفسها، كي تبقى، والحاجة إلى قداسة مختلقة،
كي تحمي خواءها. إنها نزوة سلطة لا أكثر، لكنها نزوة تتقن ارتداء لباس الأبدية، لكنه
في لحظة صدق يصف البطل نفسه قائلاً:
«أنا إله الخصب
والشبق… هكذا انبثقت إلى الحياة».
هذا التصريح المباشر
من الراوي، يضع القارئ في قلب المفارقة بين الألوهة المزعومة والجسد الأرضي. يكشف هذا
الافتتاح لعبة النص منذ بدايته، فالراوي
يعلن نفسه إلهاً، لكنه يفعل ذلك بلغة شهوانية مرتبطة بالجسد، لا بالقداسة الروحية،
كأن عرفة يقول لنا السلطة تصطنع ألوهتها من نزواتها الأرضية، وتخلط بين الشهوة
والقداسة، بين العرش والفراش، هذا الانبثاق الإلهي ليس ولادة نورانية، إنها نزوة
بشرية مقنعة بالأسطورة، وهنا يظهر التناقض، فما يعرض كقداسة ليس سوى قناع هش سرعان
ما يتشقق ليكشف خواء الداخل.
الجسد في الرواية ليس
مجرد عنصر روائي ثانوي، الجسد هو محور تدور حوله السلطة والقداسة، جسد الحاكم نفسه
يتعرض للكوابيس، يضع المسدس على رأسه مراراً، وكأن الموت يتربص به من الداخل. هذا
الجسد، الذي يُفترض أن يكون «جسد الإله»، لا يحتمل عبء الألوهة، فيتكشّف كجسد هش
مهدد بالسقوط، وهذا يعيدنا إلى ما يقوله الراوي في أحد المقاطع الصادمة:
«أصبح الزمن يمضي
ثقيلاً، مُتعِباً، وبدأت أشعر بالملل والضجر والسأم مما حولي، من كاهناتي اللواتي
يتمسحن بي، ويتقربن من ألوهيتي، بأجساد دون روح. أنهكتني أفعوانيتهن، التي تتلوى
فوقي دون توقف، بحيث تكاد أنفاسي تنقطع وتتلاشى. لم تعد قبلاتهن تثيرني وتمتعني،
تحولت إلى دغدغة مزعجة، ومن ثم إلى لزوجة مقرفة».
يكشف هذا المقطع بوضوح
أن الجسد هنا ليس أداة للمتعة فقط، بل مرآة لهشاشة أجساد الكاهنات، التي يفترض أن
تكون طقساً للقداسة واللذة، تتحول إلى عبء، إلى ثقل خانق، فيفضح النص أن القداسة
المزعومة لا تولد إلا الملل، والقرف الجسدي يصبح الجسد مساحة انهيار لا مساحة قوة،
حتى لحظات اللذة تتحول إلى طقس خانق، مما يفضح أن السلطة ليست فقط قناعاً هشاً، بل
عبئاً جسدياً ينهك صاحبه.
يُستحصر الجسد الأنثوي
في المقابل بوصفه أداة طقس وسيطرة للكاهنات والوصيفات والغزالة اللواتي يُقدمن
أجسادهن كجزء من عبادة الإله الحاكم، لكن هذه الأجساد ليست سلبية، فهي تكشف ضعفه،
تذكره بإنسانيته المكبوتة، وتفتح باباً آخر للحنين والاضطراب. وبهذا المعنى يتحول الجسد
إلى ساحة صراع، بين المتعة والسيطرة، بين الطقس والتمرد، بين الرغبة والهشاشة، إنه
المرآة التي تعكس فراغ السلطة وتفضح زيف القداسة.
من أهم ما يميز هذه الرواية
هي اشتغالها على مستوى الميثولوجيا؛ الشخصيات لا تبقى أسيرة حدودها الواقعية إذ
تتحول إلى آلهة، وأشباح، ووحوش، أو حتى رموز كونية. الغزالة ليست مجرد امرأة، هي
كائن أسطوري، و«وحش الفيافي» هو انعكاس لهواجس الراوي الداخلية.وهنا يقول:
«كأنني تحولت إلى كائن
خرافي، منفلت من سـديم مجهول، عابر بعالمنا، وقد نبتت من جسدي أجساد أنثوية
أفعوانية؛ رؤوس تلغط، وأطراف تتلوى. كأنني كينونة جديدة خارج الزمان. ألست أنا
الإله، الذي تنبثق منه أشكال الحياة بكلِ احتمالات المصادفات، صورة إله لا مثيل له
في أساطير الأولين؟».
يكشف مازن عرفة هنا كيف
يتحول الراوي أو (الإله) إلى كائن أسطوري، نصفه إنسان ونصفه مسخ، ليجسد التوتر بين
الواقع والخيال، بين الجسد البشري والرمز الكوني. هنا الميتافيزيقيا ليست فكرة
مجردة، هي تجربة جسدية وسردية، حيث يولد «إله جديد» من تفتت الأجساد وتكاثرها، كأن
الحكاية نفسها تنجب آلهتها باستمرار.
ولا تقتصر
هذه البنية الأسطورية على صورة الإله أو الغزالة أو وحش الفيافي؛ فهي تمتد لتشمل
شخصيات مثل الغولة المشيطنة. يتحول كل كائن في النص إلى رمز يتجاوز حدوده الواقعية،
ليشارك في نسج الحكاية الكونية.
هذه العناصر الأسطورية
لا تأتي للزينة، وإنما لتقول إن الواقع نفسه لا يفهم إلا كـ
«حكاية الحكاية»، التي تخلق آلهتها، والآلهة ليست إلا رموزاً لتكرارها، الراوي – الإله
ليس شخصية واحدة، إنما قناع من أقنعة لا تنتهي كل مرة يسقط قناع يولد آخر وتستمر
اللعبة.
الميتافيزيقيا
جزء من النسيج السردي، النص يُساءل ذاته، يعيد التفكير في الحكاية نفسها، هل هناك
نهاية حقاً، أم أن كل نهاية ليست سوى بداية أخرى؟ بهذا تتحول الرواية إلى مختبر
فلسفي لـ الحكاية» ذاتها. وهكذا،
تصبح الميتافيزيقيا في نص عرفة ليست أفقاً نظرياً، بل لحم الحكاية نفسها.
يقول الراوي: «فجأة،
تبدأ عيون الجثث المعلقة بذرف الدموع… دموع ليست شفافة، إنما حمراء اللون… وسرعان
ما يهطل فضاء الغرفة مطراً من دم، وبغزارة، بحيث أخذ يتساقط على وجهي، ويسيل على
أنفي… وتتبلل به سترتي العسكرية بأوسمتها الوطنية».
هذا المشهد يمثل ذروة
الواقعية السحرية في النص، حيث يتفجر الكابوس داخل اليومي، فالجثث التي من المفترض
أن تكون صامتة تبدأ بذرف دموع دموية، لتتحول الغرفة إلى فضاء مغمور بمطر من الدم،
لكن الأكثر دلالة أن هذا المطر لا يغرق فقط المكان، بل يتساقط على وجه الراوي، ويلطخ
سترته العسكرية المزينة بالأوسمة. هنا يربط عرفة بمهارة بين رموز السلطة (الزي
العسكري والأوسمة الوطنية) ودماء الضحايا، ليكشف أن هذه السلطة ممهورة بالدم، وأن
القداسة التي تمنح للحاكم ليست سوى انعكاس لعنف مقنع الكابوس الدموي لا يقدم كخيال
منفصل، وإنما كاستعارة مباشرة لحقيقة سياسية، كل أوسمة القوة تتغذى من دماء معلقة
على المشانق.
السماء تمطر دماً،
الوحوش تجوب الصحارى، الألوان والنيران تتحول إلى كائنات فاعلة، هذه العناصر ليست
مجرد خيال، لكنها تجسد الواقع السياسي والنفسي للشخصيات. الكوابيس التي تتكرر «مشهد
المسدس على الرأس، المطر الدموي، الوحش» تعمل كاستعارات لحالة الخوف والضياع، التي
يعيشها الحاكم السرد يتنقل بسلاسة بين الحلم واليقظة بين الواقع والأسطورة، حتى
يصبح القارئ نفسه جزءاً من هذا الالتباس.
الواقعية السحرية هنا أكثر
من مجرد أسلوب أدبي؛ إذ هي أداة معرفية ووسيلة تقول إن واقعنا نفسه لا يمكن فهمه،
إلا إذا تعاملنا معه كـ «حكاية
غرائبية»، مليئة بالكوابيس، لكنها تعكس الحقيقة أكثر من أي وصف مباشر. إنها واقعية
سحرية لا تهدف للإدهاش البصري فقط، لكنها
تكشف حقيقة دامية مخبوءة تحت قشرة الطقوس السياسية.
ينهي الكاتب مازن عرفة
نصه بخاتمة واعية، كل «حكاية» تفضي إلى أخرى، وكل نهاية هي بداية جديدة، والنص لا
يكتفي بفضح زيف السلطة، ولا بكشف هشاشة الجسد، وإنما يضع القارئ أمام سؤال أبدي: إذا
كانت السلطة مجرد نزوة، والقداسة مجرد قناع، والجسد ساحة هشة، فما الذي سيبقى؟
«أما آن للحكاية أن
تنتهي، بعد أن كسرتْ حواجز الأزمنة والأمكنة، وعبثتْ بسير المرويات. تعبتُ أنا،
وتعبت الحكاية معي، منذ أن انبثقتُ معها من عدم فيزيائي ـ كوانتي، وغدوت إلهاً
افتراضياً… هكذا تقول الحكاية، وهكذا تمضي. انبثقتُ مع الحكاية من دخان الخيال،
وسأذوي معها في دخان الخيال. والآن، ضجرتُ، ونالني الإنهاك. تنتهي الحكاية، وأمضي معها
في اللحظات الأخيرة دخاناً».
هذا الختام يضع القارئ
أمام المفارقة الكبرى، كل سلطة تزول، وكل جسد يفنى، لكن الحكاية وحدها، التي تستمر
حتى وإن كانت مكونة من دخان الخيال. النهاية هنا ليست ختاماً مطلقاً هي تحول إلى
بداية أخرى، الحكاية تبدو وكأنها تموت لتُبعث من جديد، كأنها الكائن الوحيد الذي
لا يفنى، وربما هنا يكمن سر النص، أن الحكاية لا تموت، وإنما نحن الذين نفنى
داخلها.
في فضاء مهجور بين
العروش المهدمة والأوسمة الملطخة بالدماء، تولد «الحكايات» من نفسها، تخرج من رماد
السلطة المندثرة، وجثث الأجساد المتلاشية هناك، حيث لم يعد للقناع أي معنى تتجول
الأرواح في أرجاء المعابد المهجورة، تحمل معها أصوات الحكايات القديمة، وتهمس بأن
كل نهاية ليست سوى بداية أخرى.
إن رواية «نزوة
الاحتمالات والظلال»، الصادرة عن دار الخياط – بواشنطن، هي أكثر من مجرد نص، هي
عالم ينبض بـ «الحكاية» نفسها، جسد
هش، ألوهة مصطنعة، أساطير تتكاثر من رحم السرد، وواقع يلمع بوهج سحري بين الظلال.
وفي هذا العالم، تتساءل الحكايات والقرّاء معها، إذا ذهبت كل السلطة، واختفت
الأجساد، واختفى القناع، ما الذي سيبقى؟ هل تبقى «الحكاية» وحدها، أم أننا نحن من
نحيا داخلها ونموت معها؟ هل نحن صانعو مصائرنا، أم أن «الحكايات»
هي التي تصنعنا؟
في النهاية تنهار
العروش، وتذوي الأجساد، وتتساقط الأقنعة واحداً تلو الآخر، لكن «الحكاية» وحدها
تواصل تنفسها من تحت الرماد. ربما هذه هي المفارقة التي يكشفها نص «نزوة
الاحتمالات والظلال»، أن السلطة نزوة عابرة، مهما بدت أبدية، والجسد هش، مهما بدا
مقدساً. أما الحكاية، فهي الكائن الوحيد الذي لا يموت. نحن نغادر المشهد واحداً
تلو الآخر، بينما تظل «الحكاية» تمشي فوق الأطلال، تروي نفسها من جديد، وتهمس في
آذاننا أن كل نهاية ليست سوى بداية أخرى.